دراسات وتقارير

الولوج الى العدالة في تونس

شكر وتقدير

يتقدم مركز دعم بالشكر والتقدير لكل من ساهم في خروج هاته الدراسة بشكلها الحالي ونخص بالشكر كل من د.نائلة شعبان، ‏عميدة كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس (جامعة قرطاج)، ود.اسماء الغشام، نائبة ‏عميدة كلية ‏العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس (جامعة ‏قرطاج) على ‏ما قاما به من جهد ودعم تلك الدراسة.‏
كما وجب تقديم الشكر للاستاذ وليد الماجري، الصحفي الاستقصائي مؤسس ومدير الكتيبة، على مشاركته ومساهمته ‏المتميزة خلال مرحلة المقابلات مع دراسات الحالة أو الاستبيان.‏
وكذلك جميع الخبراء الحقوقيين والقانونيين والصحفيين والاعلاميين، وأصحاب المبادرات والمشاكل الاقتصادية ‏والاجتماعية الذين وفروا لنا الوقت لإجراء مجموعة من المقابلات أو المشاركة في المائدة المستديرة لمناقشة ‏المسودة النهائية للدراسة، والتي كان مردود مخلاتهم من آراء ومقترحات عميق الأثر فيما وصلت إليه هاته الدراسة ‏بصورتها الحالية. وددنا أن نذكرهم جميعًا لنقول لهم بكل فخر وود واحترام شكرا لكم جميعًا.‏

المائدة المستديرة:‏

مقابلات الاستبيان:‏

دراسات الحالة:‏

مقدمة مركز دعم

يسعى مركز دعم التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان (دعم)، إلى الإسهام في تعزيز العدالة لإعمال مبادئ حقوق ‏الإنسان، وذلك من خلال صياغة رؤية منهجية لحالة العدالة وامكانية الولوج إليها في تونس. وكذلك وضع تصورات ‏عملية تناسب احتياجات المرفق القضائي والعدلي مستندة على مبادئ حقوق الانسان في كونيتها وشموليتها وبعيدة ‏عن التوجهات السياسية والأيدولوجية، وتحديدًا فيما يتعلق بالمؤسسات الاقتصادية الناشئة والاقليات والفئات ‏المهمشة. وفي هذا السياق سعى المركز إلى تطوير وانتاج تلك الدراسة والتي جاء وقت تنفيذها خلال جائحة الكورونا ‏وما تبعها من تاثيرات وصعوبات وعراقيل وبالخصوص فكل ما يتطلب أعمال ميدانية لاتمام تلك الدراسة.‏
وايمانًا من فريق عمل مركز دعم بأهمية العمل على اتمام تلك الدراسة قام بتخطي كل تلك المعوقات والتنسيق مع ‏كافة المشاركين في تلك الدراسة خلال تلك الفترة الصعبة وتحت شروط الجائحة الصحية للخروج بها في افضل صورة ‏وشكل ممكن، وذلك للاسهام في المكتبة الحقوقية العربية الحقوقية بتلك الدراسة عن حالة الولوج للعدالة في تونس، ‏كذك بشغف تحقيق النجاح حتى نتمكن من امداد العمل دراسة عملية الولوج للعدالة في مصر وليبيا خلال السنوات ‏القادمة. ‏
كعادة مركز دعم في الاعتماد على المنهجية التشاركية في اتمام ادبياته الحقوقية، استكمل دعم استخدام تلك ‏المنهجية خلال كافة مراحل العمل على اتمام تلك الدراسة وهنا يجب ان نذكر الدور الهام لكل من د.نائلة شعبان، ‏عميدة كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس (جامعة قرطاج)، ود.اسماء الغشام، نائبة ‏عميدة كلية ‏العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس (جامعة ‏قرطاج) واللتان كانتا على قدر كبير من التعاون والتفاهم بما ‏كان له عظيم الأثر على اتمام الدراسة.‏
ومن خلال الاعتماد على المنهجية التشاركية تم اعداد استبيان بمعرفة الخبراء وتم تمريره الكترونيًا إلى عدد كبير من ‏الاطراف المتعلقة مجتمع مدني وخبراء قانونيين واكادميين واعلاميين، بجانب تسجيل مجموعة من المقابلات مع ‏الخبراء التونسيين حول أسئلة الاستبيان.‏
كذلك قام فريق عمل مركز دعم بمعاونة الخبراء بتحديد دراسات الحالة بعد مجهود شاق نظرًا لظروف الجائحة الصحية ‏والتي جعلت العديد من تلك الحالات تقوم بالاعتذار خوفًا من الجائحة، وهو ما استنزف وقت وطاقة في اعادة تحديد ‏مجوعة اخرى من دراسات الحالة والعمل على التنسيق معها من أجل المقابلة والدراسة والتصوير.‏
وقد قامت د.نائلة شعبان، عميدة كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس (جامعة قرطاج)، ونائبتها ‏د.اسماء الغشام، بتقديم كل الدعم من الاسهام بالبُعد الاكاديمي لتلك الدراسة من خلال مدنا بالخبراء القانونيين ‏والاكاديميين، والمناقشة على كيفية تطوير وتأطير أعمال الدراسة، بما ساعد الخبراء الثلاثة ووحدة البحوث والدراسات ‏بمركز دعم من إتمام المسودة الأولية للدراسة.‏
ثم تم عقد مائدة مستديرة لمناقشة تلك المسودة بالتعاون مع كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس ‏‏(جامعة قرطاج)، والوكالة الدولية للتعاون الالماني، وبحضور ثلة متميزة ومنتقاة من الباحثين والصحفيين والاعلاميين ‏والاكاديميين والخبراء القانويين التونسيين وكذلك الخبراء الدوليين. كان لتلك لمناقشة عظيم الأثر في إعادة تنظيم ‏وتطوير محتوى الدراسة بما ساعد الخبراء لإتمام نسختها النهائية بشكلها الحالي والذي نتمنى ان يكون مساهمة جادة ‏من مركز دعم في إثراء المكتبة الحقوقية العربية فيما يخض حقوق الانسان والتحول الديمقراطي بشكل عام والولوج ‏للعدالة بشكل خاص، ويبدأ المركز بنشره لهاته الدراسة أولى خطواته في مرصد الولوج للعدالة، وسيتبع تلك الخطوة ‏بفترة وجيزة مجموعة من الخطوات الاخرى لإتمام العمل على مرصد الولوج للعدالة في تونس، وطامحًا لمد عمل ‏المرصد الى مصر وليبيا خلال الشهور القادمة.‏

محمد عمران
رئيس مركز دعم التحول الديمقراطي وحقوق الانسان – دعم

المقدمة

الإطار العام للدراسة

مثّل مطلب العدالة محور هتافات الشعوب الثائرة منذ سنة 2011. فقد ولّد الشعور بغياب الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية إحساسًا بالحيف والظلم والنقمة فكان الدافع وراء خروج الجماهير إلى الشوارع. برز جليًا خلال الفترة السابقة لسنة 2011، عجز المنظومة المؤسساتية والقانونية عن توفير الحد الأدنى من الضمانات المرتبطة بفكرة العدالة، رغم التنصيص على هذه الأخيرة في النص الدستوري والنصوص التشريعية والإعلان عنها في البرامج والمخططات التنموية والأهداف التي ترنو السلط العمومية لتحقيقها، إلا أنّ تكريسها بصورة فعلية بقي محدودًا. وهو ما يبرّر تناول هذه الدراسة لموضوع الولوج إلى العدالة باعتبار أهميته البالغة في تحقيق الرفاه الاقتصادي والأمن الاجتماعي.

وبالرجوع إلى المنظومة القانونية نتبيّن أنّه عادة ما يتمّ التركيز عند دراسة موضوع الولوج إلى العدالة على النفاذ إلى القضاء كسلطة دستورية ضامنة للحقوق والحريات ولتطبيق القانون بالنظر إلى التطور الهام الذي عرفته المنظومة القانونية التونسية في السنوات الأخيرة وخاصة إثر صدور دستور 27 جانفي/يناير 2014.

وتعتبر مقاربة العدالة من زاوية النفاذ إلى القضاء والحصول على حكم قضائي بمناسبة نشوء نزاع معيّن ضرورية باعتبارها الآلية القانونية الأساسية لحصول المتقاضين على حقوقهم في كنف احترام الضمانات القانونية، إلاّ أن هذه المقاربة تبقى محدودة باعتبار ان الولوج الى العدالة اصطلاحًا هو أوسع مجالًا فالعدالة لا ترتبط بالضرورة بالقضاء بل تشمل أوجهًا أخرى فهي تصوّر إنساني مبني على تحقيق التوازن بين أفراد المجتمع على مستوى الحقوق التي تكرّسها المنظومة القانونية وهو ما من شأنه أن يولّد لدى أفراد المجتمع إحساسًا بالعدل وبالمساواة وعدم التمييز. وفي هذا الإطار لا تكون العدالة مفردًا بل هي متعددة، فيجوز أن نتحدّث عن العدالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعدالة أمام القضاء كوجه من أوجه العدالة. وعلى هذا الأساس يكون اللجوء إلى العدالة أوسع من الحق في التقاضي وشروطه واجراءاته.

إنّ التوسع في مفهوم الولوج إلى العدالة في هذه الدراسة سيسمح بالتركيز لا فقط على الحق في الولوج إلى القضاء بل وأيضًا على النفاذ إلى العدالة الاقتصادية والجبائية كوجه من أوجه العدالة من زاوية الفئات الأكثر ضعفًا أو هشاشة وفئة الشباب من أصحاب المبادرات الاقتصادية لكن مع الاقتصار على بعض الأمثلة فقط لأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تشمل العديد من الحقوق كالحق في التعليم، والحق في العمل، والحق في الصحة، الحق في مستوى معيشي لائق، وحقوق الطفل، ومقاومة العنف ضد المرأة، وحقوق الأقليات…).

كما سيتم التعرّض إلى الإشكاليات التي يطرحها الولوج الى العدالة سواء بمفهومها الضيق أو الواسع. إذ أبرزت الاستشارات الوطنية الحديثة التي أجرتها وزارة العدل أن العدالة لا تستجيب لكل تطلعات المواطنين ولذلك فإن إحداث عدالة تكون قريبة حقًا من المواطنين يمثل إحدى الوسائل لسد الفجوة بين المواطن ومنظومة العدالة. ويتطلب تحقيق هذا الهدف تقليص عدة مسافات بين المواطنين ومنظومة العدالة وهي مسافات جغرافية ومسافات زمنية مرتبطة بالآجال الطويلة ومسافات اجتماعية ناتجة عن الضغوطات الاقتصادية أو العراقيل الثقافية.

كما بيّنت وزارة العدل أن تجاوز الإشكاليات المذكورة يتطلب وضع آليات مختلفة لضمان النفاذ الحقيقي لكل المواطنين إلى العدالة. ومن بين هذه الآليات مراجعة الخارطة القضائية التي ستمكن من خدمة المواطنين من خلال إنشاء محاكم نواحي في المناطق الجغرافية الريفية التي تشهد تشتتًا سكانيًا. كذاك فإن تحديث الإجراءات نحو المزيد من المرونة والسرعة سيمكن أكبر عدد ممكن من ضعاف الحال من الاستفادة من الاعانة العدلية التي تعتبر واحدة من نقاط القوة في منظومة العدالة في تونس.

وتتضمن هذه الآليات أيضًا المساعدة على النفاذ إلى القانون وإلى معرفة القانون وذلك من خلال تشجيع هياكل الدولة والمهن القضائية وممثلي المجتمع المدني على وضع آليات للاستشارة والمساعدة القانونية لإرشاد المتقاضين ومستعملي مرفق العدالة وتحسين معرفهم في المادة القانونية وتحسيسهم بحقوقهم. الاقتصادية.

أهداف الدراسة

تهدف الدراسة أساسًا إلى استكشاف:

منهجية الدراسة

لتدقيق أهداف الدراسة تم اللجوء، على المستوى المنهجي، إلى جملة من اللقاءات مع المهتمين بالشأن الحقوقي والجبائي والإعلامي مع متابعة مباشرة وموثقة لحالات محددة من الفئات المذكورة أعلاه. وهو ما سيتم عرضه في مواد مصورة ترفق معه تباعًا، وقد أكدت اللقاءات فرضيات التقرير المرتبطة بمقاربة مفهوم الولوج الى العدالة واقتصاره على الحق في التقاضي دون سياقه. والهدف من ذلك كان توضيح ضرورة الحاجة إلى تجديد هذه المقاربة وفتحها على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحقوق الأقليات والفئات الهشة بإعتبارها حالات دقيقة تطرح تحديات عملية مهمة من شأنها تحسين منظومة الولوج الى العدالة بشكل عام.

يمكن ان نبسط الآراء والمواقف والتحليلات التي وردت بالاستبيان. وقد تكوّن الاستبيان الذي طرحه مركز دعم التحول الديمقراطي وحقوق الانسان (دعم) من 22 سؤالًا وتفرّق اختصاص المحاورين بين كلّ من قطاع الصحافة والقانون والمجتمع المدني، لذلك توزّعت الأجوبة بين محاور عدّة سنحاول تلخيصها في النقاط التالية:

تناول السؤال الأوّل مفهوم الولوج إلى العدالة ولاحظنا خلطًا مفاهيميًّا بين “الولوج إلى العدالة” و”الحقّ في التقاضي” لذلك كانت الأجوبة جزئية ركزت على جانب من جوانب حقّ التقاضي حين أشارت بعض الأجوبة الى مؤسسة الإعانة العدلية أو درجات التقاضي والنزاعات محل التقاضي والأطراف المعنية به قبل إصدار الحكم أو عند تنفيذه. وهو ما جعل مفهوم الولوج إلى العدالة يدور مدار مرفق القضاء والمحكمة رغم أن المفهوم أوسع من الحق في التقاضي ذاته.

ربطت محاولة بسط الفهم المتداول حول الولوج الى العدالة لدى مختلف المستجوبين مع اشكالية تأخٍّر أهميّة حق الولوج إلى العدالة في نظر المجتمع. وقد تلخّصت الإشكالية في بطء الإجراءات الإدارية من جهة وتشبّع المجتمع التونسي بالديكتاتورية الحاضرة دومًا في مخيّلته خاصّة وأنّ مفهوم العدالة قد ارتبط دائمًا بأجهزة الدولة ونمّى عدم ثقة المواطن في القضاء حيث أنّ الأحكام لا تنفّذ حتى وان أنصفت المتضرّر، كما أنّ قلة الوعي القانوني والحقوقي وغياب الإرادة السياسية وجهل المواطن لكيفية افتكاك الحقوق ساهم بشكل كبير في عدم تقدير حق الولوج إلى العدالة، وفهم مدى عمقه. رغم ما سبق، ناقض جزء من المستجوبين التوجه المذكور أعلاه حيث اعتبروا أنّ حق الولوج إلى العدالة ليس متأخّرًا في سلم الأهمية الاجتماعية. واستندوا في ذلك إلى التطورات الحاصلة بعد الثورة والمطالب المرتبطة بالعدالة على جميع المستويات، رغم أن أسباب التفاوت موجودة، وأسباب عدم احترام القانون واستغلاله متواترة. الأمر الذي دعا البعض الى القول، من وجهة نظر تاريخية وسوسيولوجية بحتة، ان المجتمع التونسي لا يعرف العدل ويجهل القانون وغريب عن دولة القانون.
واجمالًا نخلص إلى القول، بأنّ صعوبة المصطلح الذي قمنا بطرحه وعدم تداوله ليس بين المجتمع فحسب بل بين الفئات المهتمة بالشأن العام ذات التكوين القانوني أو الإعلامي قد أدّى إلى إجابات مقتضبة وغير واضحة.

وبناء على الرغبة في تدقيق مفهوم الولوج الى العدالة فقد اتجه السؤال الثالث، إلى ربط هذا الحق بالجانب الاقتصادي فيما يتعلق بإنشاء المؤسسات الاقتصادية، لذلك اتخّذت الأجوبة منحيين: منحى اعتمد على تأثير حق الولوج إلى العدالة إن كان متاحًا على المجتمع، ومنحى آخر طرح تأثير هذا الحق أو أهميّته في بعث المؤسّسات الاقتصادية، وفي كلتا الحالتين كانت أهمّ الإشكاليات المطروحة من قبل محاورينا تتمثّل في: عدم الثقة، البيروقراطية، تأخّر الإجراءات الإدارية، عدم استشارة الباحث الشاب لمحامي أثناء بعثه للمشروع، وكثرة التكاليف التي يتحمّلها الباعث الشاب. وهو ما توسع بالتعاطي مع الولوج الى العدالة إلى أكثر من مجرد حق التقاضي، وصولًا إلى فرص الولوج الى العدالة حسب الموقع الاجتماعي والفئة العمرية والانتماء الجهوي…

وفي تساؤلنا عن أهم الإشكاليات التي تعترض طريق الباعث الشاب في تقييم لأداء المؤسّسات العمومية المساندة لبعث المشاريع الاقتصادية بتونس وجدنا أنّ كل التقييمات تقريبًا سلبية حيث أجمعت على بيروقراطية المؤسّسات وتعدّد الوثائق الإدارية المطلوبة وأيضًا الجهات الإدارية، كما أنّه تمّ التساؤل عن الشبّاك الواحد الذي فشل في أن يقدّم بديلًا وتسهيلات لأنّه تمّ انجازه بشكل غير دقيق وتمّت عرقلته من قبل المؤسّسات نفسها لتحافظ على الامتيازات المخالفة للصيغ القانونية وبقيت مدّة بعث المشروع تأخذ شهورًا لتسويته.
هناك أيضًا مشكل آخر وهو عدم ادراج هذه الوسائل أو مراحل تكوين المشروع في الرقمنة التي يمكنها تسهيل كل الإجراءات، هذا إلى جانب القوانين البالية التي تربط الباعث الشاب باختصاص تكوينه ممّا يخلق لنا أزمة في تكرار وتقليد المشاريع وقلّة الابتكار.

كان دور النقابات والمجتمع المدني محور السؤال الخامس الذي تناول علاقة حق الولوج إلى العدالة بالنقابات والمجتمع المدني وعملها لتكريس هذا الحق، وكانت تفاعلات محاورينا بين مدافع ومنكر حيث أنّ هناك من انتقد دورها السيء وغياب هذا الحق في سلم اولوياتها، وهناك من أكّد على أنّ دور النقابات هو الدفاع عن العاملين وليس باعثي المشاريع وبالتالي ليس لها دور بالمرّة في تكريس هذا الحق، وهو ما يجب مراجعته حسب بعض المتدخلين لأن تدخلها في مرحلة متقدمة من بعث المشاريع وتواصلها مع فئة الشباب من باعثي المشاريع يمكن ان يساهم في تغيير الأمور، عكس ما هو عليه الحال من ضعف دورها.
كما أنّ البعض اتجّه إلى أنّ هناك تقصير من قبل المجتمع المدني في التوعية بهذا الحق وهذا يعود إلى توجّه المنظّمات واختصاصاتها، كما أنّ للتأثير الايديولوجي على النقابات والمنظمات دور مهمّ في التعامل مع هذا الحقّ.

تعمّق السؤال السادس في حق الولوج إلى العدالة ليصل إلى إطارها التشريعي ومدى تحقيق فرص المساواة ضمنه. وهنا نعود إلى طرح إشكال التنفيذ والتطبيق، حيث أنّ القوانين أو الإطار التشريعي بشكل عام يضمن فرص التساوي لكنّه يبقى مجرّد حبر على ورق لعدم تطبيقه، كما أنّ المشكلة أنّ القوانين أصبحت لا تتلاءم مع المواطن ولا تنصفه وبسبب تعقيدها تكبر الفجوة وتصبح انتقائية.
توجه البعض إلى ضرورة خلق قضاء ومحاماة مختصة في هذا الجانب لأن الأمر لا يتعلق بمبدأ المساواة وتكريسه بقدر ما يتعلّق بخلق حلول استثنائية للظرف الاستثنائي لضمان تحقق المساواة واقعًا.

تناول السؤال السابع ثنائية المركز والهامش والانتماء في علاقة بفرص الولوج إلى العدالة، وأقرّ الجميع بوجود تفاوت بين المناطق الداخلية والمناطق الكبرى التي تتموقع فيها جميع المؤسسات، حيث أنّ هناك على سبيل المثال محكمة تعقيب واحدة فقط في كلّ البلاد التونسية وموجودة في تونس العاصمة، وحتى وان تطوّرت بعض المناطق حضريًا وزادت سكانيًا تبقى البنية التحتية مهترئة ولا تتطوّر من جهة المؤسسات. هناك من طرح بديلًا مستشهدًا بألمانيا كتوزيع المشاريع حسب ثروات الجهة والقطاع الحيوي فيها (فلاحي، صناعي…) وهكذا تتاح المشاريع للباعثين الشبّان كلّ حسب جهته ومكان تواجده. وهو ما ربط بين جل المتدخلين بين توفير البنية التحتية للعدالة وفرص تطوير الاقتصاد والمجتمع والثقافة. وهو ما خلق أرضية متشابهة بين مختلف الردود عن مؤسسات العدالة بمختلف أنواعها وسياقها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

يطرح السؤال الثامن علاقة مبادئ المساواة رغم الفوارق الجنسية والدينية والجنسانية للولوج إلى العدالة، وهناك من اتجّه نحو التمييز القائم ضدّ المرأة خاصّة في قضايا الإرث والشرف، وهناك من طرح إمكانية التمييز بين المسلمين والمنتمين لديانات مخالفة خاصّة وأنّ خلفية معظم القضاة هي خلفية محافظة متصدّرة ضد الأقليات الجنسية والدينية وأبرز مثال على ذلك قضية المثليين الشهيرة بولاية القيروان والتي وصلت إلى حدّ منعهما من دخول ولاية القيروان مجدّدًا.
طرح المتدخلون غياب قيم الديمقراطية أصلًا في المجتمع وتسربها إلى العمل الإداري والأداء القضائي، وهو ما أكّد أن الولوج الى العدالة يتأثر بمختلف العوامل داخل الدولة والمجتمع.

لم تكن الأسئلة موجهة لكنها أتاحت مجالًا واسعًا لتحليل أسباب عدم إتاحة فرص متساوية للولوج الى العدالة. وهو ما طرحه السؤال التاسع. وقد توسع المتدخلون في تحليلهم لواقع الولوج إلى العدالة. وقد عاد بعضهم الى واقع الاستبداد والدكتاتورية وأصولها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بالإضافة الى التاريخية المرتبطة بالاستعمار وقيام دولة الاستقلال. فيما اتجه آخرون الى الأسباب المباشرة المتصلة بالدولة ومؤسساتها نفسها وخاصة القضاء وأزمة مرفق عمومي يعيش أزمة هيكلية ولوجستية لا تنفصل عن غياب تطويره بأدوات رقمية حديثة. كما لم يفصله غيرهم من المتدخلين عن غياب الإرادة السياسية.

يغوص السؤال العاشر في مستوى لا ينفصل عن سابقه، إلا أنه يحدد تساؤلًا عن المعطى الثقافي والمخيلة الجماعية التونسية حيث حاول فهم الترابط الثقافي والسياسي والحضاري بحق الولوج إلى العدالة، وهل مخيلتنا الجماعية كانت سببًا في عرقلة مسار تحقيق حق الولوج إلى العدالة وتكريسه اجتماعيًا؟

لاحظنا أنّ جميع المحاورين تقريبًا تفاعلوا مع الجانب الثقافي دون الالتفات إلى الحضاري والسياسي حيث أنّهم أجمعوا على أنّ قلّة التعليم والاستبداد المتفشّي في الذاكرة الاجتماعية والخلفية الدينية ذات الطابع المحافظ والمتستّر قد ساهمت بشكل كبير في عدم تحقيق حق عادل للجميع كما أنّ عشر سنوات من الثورة لم تشكّل بعد ديمقراطية جديدة قادرة على ضمان الحق للجميع والمساواة بينهم.

يجمع المستجوبون في السؤال الحادي عشر على غياب البرامج الحزبية القادرة على الإضافة إلى منظومة الولوج إلى العدالة، بل يهيمن توظيفها حسب رأيهم ومحاولات السيطرة عليها. لذلك تتراوح المواقف حسب احكامها وتوجهها إن كانت لصالح طرف أو آخر.

أمّا بالنسبة إلى السؤال الثاني عشر فقد ذهب الجميع إلى أنّ الإجراءات القانونية الخاصة بتكوين الشركات هي نفسها من الناحية القانونية لكن التفاوت يخلق في التطبيق. وقد أحالنا جل المستجوبين إلى أشكال التفاوت الجهوي ومن حيث الجنس، فيما اعتبرت البيروقراطية شرًا لا بد منه. رغم أن مطلب إصلاحها موجود لكن توصيفها السلبي هو المهيمن. تعتبر البيروقراطية فرصة للفساد في ظل غياب ضمانات المحاسبة والمسؤولية. وهو ما دعا البعض إلى المطالبة بتسجيل اسم العون الذي عمل على ملف تكوين شركة ما من أجل المسؤولية والمحاسبة. الأمر الذي أكد مطالب الإصلاح من أجل تسهيل الإجراءات للدفع بالحركة الاقتصادية. كما يؤكد جانب آخر على أن إجراءات تكوين الشركات مبنية على حجم رأس مال الشركة قيد التأسيس لمعرفة حجم الضرائب المتوقع منها، بما يعني أن مقاربة الإجراءات يجب أن تتغير لتحقيق العدالة بدل التركيز على الضريبة والمال.

ونستنتج من السؤال الثالث عشر بأنّ كثرة الجباية تقتل الجباية حسب أحد المتدخلين حيث يعاني النظام الجبائي من التشتت وكثرة التغيير بالإضافة إلى كونه صعبًا حسب المختصين. كما أنه يعتبر غير عادل فمجلّة الأنظمة التقديرية الجبائية لا يمكن لها أن تكون عادلة، حيث يدفع الموظّفون ضرائب مضاعفة ب 10 مرّات مقارنة بأصحاب القطاع الخاص.
لا يوفر النظام الجبائي على ما هو عليه الأمان الجبائي. كما ربطه بعض المستجوبين بغاياته والأهداف التي يستخدم فيها ومدى تحققها واقعًا والفئات المستفيدة منه.

بينما اعتبر البعض في السؤال الرابع عشر بأنّ الضغط الجبائي يقع على الشباب ويرى جانب آخر أن الضغط على المؤسسات المتوسطة والكبرى أكبر. وهو في العموم ضغط يتزايد سنويًا مع كل قانون مالية. فيما يجد أصحاب النفوذ أنفسهم في مواقع متقدمة قادرة على المقاومة والمناورة ضمن منطق اللوبيات.

في المقابل، تسري مشاكل المنظومة القضائية حسب السؤال الخامس عشر على النزاعات المتعلقة بالاستثمارات. وتؤدي النقائص في مرفق القضاء إلى تعطيل هذه النزاعات. وهو ما دعا البعض إلى اقتراح اخراج دائرة المقاولة من الدائرة التجارية لتجنب حالات التقاضي التي تدوم سنوات طويلة خاصة أمام القاضي الإداري. يدخل ذلك في إطار إصلاح شامل يتطلب إرادة سياسية هي غائبة الآن.

وعلى مستوى الهياكل القادرة على إرشاد المستثمرين الشبان في التقاضي، يؤكد الأغلبية في السؤال السادس عشر على عدم وجود هياكل مختصة، فيما أشار البعض إلى الدور المحدود لمؤسسة الإرشاد القضائي. وهي مؤسسة محدودة كما تغيب الهياكل العمومية لمساندة الشبان ويطرح السؤال عن جدوى بعضها. فيما اعتبر البعض ان هيكلًا من هذا القبيل يبقى بعيد المنال كحلم صعب التحقق.

فيما يرتبط بدور المواطن في ظل وضعية مماثلة، يعتبر المواطن في السؤال السابع عشر ضحية لدى الرأي السائد، إلا أنه مسؤول في مستوى ما على قدر التعامل السلبي الذي يبديه.
لكن المسؤولية تعود لمؤسسات الدولة أساسًا عن طريق سياساتها وعن طريق مرفق التعليم العمومي خاصة في إرساء هذا الوعي المجتمعي الذي يتكرس من خلال المواطنة باعتبار ان المواطن لا يمتلك السلطة الكافية.

لا يمثل الرهان في السؤال الثامن عشر على مؤسسة الإعانة العدلية رهانًا ذو معنى أو جديًا لدى البعض. ففيما يرى مختصون قانونيون ضرورة إبقاء نفس المؤسسة لكن مع إحداث مؤسسات أخرى. ضمن شبكة المؤسسات والبيروقراطية القائمة يبدو المجال مفتوحًا لجهد كبير لإنصاف الأضعف، رغم وجود بعض البوادر الإيجابية.

فيما يتعلق بسلطة الإعلام ودوره في السؤال التاسع عشر، تغيب المعلومة القانونية. فهي من المجالات القليلة التي تم الاستثمار فيها رغم أهميتها بعد الثورة. رغم وجود بعض المبادرات من هنا وهناك لكنها في الأعم الأغلب غير وازنة، فيما يتجه الأغلبية من المستجوبين الى ضرورة التركيز على المرفق القضائي كمشكل رئيسي والرهان على إعلام استقصائي يلعب دورًا رقابيًا مجديًا في هذا المستوى.

ووفق كل من السؤالين العشرين والواحد والعشرين فإنّ الإعلام يلعب دورًا رئيسيًا في توفير المعلومة القانونية وهو من الحلول الأساسية لرفع الوعي القانوني فيما يتعلق بالولوج إلى العدالة كمنظومة شاملة. تمثل التوعية نقطة محورية لدى المتدخلين لكنه دور يترافق بفتح منابر إعلامية قادرة على مناقشة القضايا المتعلقة به.

في ظل وضع صعب وصفه العديدون في الأسئلة السابقة، لا يرى جلهم في السؤال الأخير أملًا كبيرًا في الرهان على تغيير فرضته أزمة الكورونا. فحتى العدالة الرقمية ورقمنة المرفق القضائي خلال فترة الوباء الصحي لا يأمل فعليًا في تواصلها خاصة بالنظر إلى البنية التحتية المتوفرة اليوم، التي هي بدورها تعاني من إشكاليات جمة.

نتائج الاستبيان

وصل الاستبيان بين التصور الذي بُني عليه التقرير، حول مقاربة مفهوم الولوج الى العدالة، والإطار التشريعي والعناصر التالية المتعلقة بالإعلام والمادة الجبائية والاقتصادية. بناء على التقاطعات الموجودة، اتضح جليًا أن منظومة الولوج إلى العدالة تتجاوز الحق في التقاضي والمثول امام المحكمة إلى: 

في هذا الاتجاه، استعرض القسم المتعلق بالإعلام ودوره في التعاطي مع منظومة الولوج الى العدالة قراءة تاريخية مستفيضة في جانب تكون منظومة استبدادية مقصية للعديد من الفئات، كان للقانون دور في هيكلة الاستبداد نفسه. وهو ما يذكر على سبيل المثال بخصوص الأراضي الفلاحية بعد الاستعمار وبعد تجربة التعاضد. لم تكن برامج الدولة بخصوص التنمية وبناءها أو تصفية أثارها عادلة بالمرة، وقد تواصلت هذه الآثار لمدة طويلة. أشار هذا القسم الى أن تناول العدالة والتفكير فيها له جذور في التاريخ التونسي. وقد ساهم الإعلام في تبلوره والمطالبة به كرقيب ومرافق له.

على المستوى الجبائي، قدم القسم الخاص به مسارات بحث ممكنة حول نقاط تمثل عوائق حقيقية لتحقيق العدالة الجبائية والتوزيع العادل للضغط الجبائي. تمثل الضريبة واجبًا مواطنيًا نحو المجموعة الوطنية لكن الكثير من الجباية يقتل الجباية. فهو يمس من العلاقة الصحية بين المواطن والدولة والمجتمع فبدل أن تكون علاقة متوازنة مبنية على الحق والواجب تهيمن الأهداف الخاصة للمصلحة الخاصة التي ستبحث لها عن سب لتجاوز الجباية والضرائب في حال لم تكن موجهة وعادلة. في هذا المستوى برزت جليًا العلاقة بين المواطنة والجباية والاقتصاد والعدالة، من حيث الأخير مسار متكامل وغاية مطلوبة في نفس الوقت.

الجزء الأوّل: تاريخية مفهوم الولوج إلى العدالة منذ الاستقلال: وكيفية تعاطي وسائل الإعلام مع هذا الحق

مدخل مفاهيمي

إنّ مفهوم العدالة بمعناه الحالي لم يظهر الّا بعد نيل الايالة التونسية لاستقلالها التام سنة 1956 واعلانها نظام الجمهورية ومصادقة مجلسها التأسيسي على دستور 1959. وترسيخًا لمفهوم العدالة في توجّه دولة الاستقلال، كان باي تونس محمد الأمين باي قد أصدر شعارا (طغراء) جديدًا للبلاد التونسية بتاريخ 21 جوان/يونيو 1956 يثَبِّت من خلاله أسس الدولة الجديدة القائمة على ثلاثة عناصر وهي (نظام، حريّة، عدالة) .

كان الرّبط بين هذه القيم الثلاث محلّ اشادة من قبل المكوّنات السياسية والنقابية في تلك الفترة. وقد تطرّقت بعض الصحف المطبوعة آنذاك على غرار صحيفة “العمل” وهي أول جريدة للحزب الحر الدستوري الجديد، ونظيرتها الناطقة باللغة الفرنسية صحيفة “لاكسيون” إلى أركان الشعار الجديد ومعانيه. حتّى أنّ صحيفة “لاديباش تونيزيان” أي (البرقية التونسية) الناطقة باللغة الفرنسية، لسان حال الاقامة العامّة الفرنسية بتونس، كانت قد تطرّقت هي الأخرى إلى ظهور أركان الشعار الجديد للدولة التونسية، مقارنة ايّاه بشعار الجمهورية الفرنسية الصادر بتاريخ 1953 والذي تمّ توشيحه بثلاث قيم (حرية، مساواة، أخوّة).

غير أنّ مفهوم العدل والعدالة يعود فعليًا في تونس إلى فترة إنشاء المحاكم المستقلّة خلال القرن الثامن عشر، ثمّ سرعان ما تمّ تثبيته عبر دستور عهد الأمان في 10 سبتمبر 1857، الذي نصّ فصله الأوّل على “تأكيد الأمان لكافة السكان في أبدانهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقّ يتولّى النظر فيه مجلس حُكمي قضائي”. وبناء على ذلك تمّ سنّ القوانين ونُظّمت المجالس الحُكمية وشرعت في أعمالها، ثمّ حدثت النكسة وألغيت هذه القوانين في أوّل ماي 1864. وفي سنة 1870 أُلحقت الشؤون القضائية بالوزارة الكبرى وأحدثت بها دائرة مدنية وأخرى جزائية لتحضير معاريض تعرض على الباي قصد إمضائها وفق إرادته ومزاجه. 

ووفق ما توثّقه دراسة “تاريخ القضاء التونسي” فانّه إلى جانب محكمة الوزارة المشار إليها كانت توجد بالعاصمة “محكمة الدريبة” (المحكمة الابتدائية) التي يتولّى النظر في قضاياها قاض عدلي يطلق عليه لقب “الفاريك”. وهذه المحكمة كانت تحكم مباشرة دون عرض أحكامها على الباي، وأشهر من تولاّها القاضي صالح عباس. وفي 13 جانفي/يناير 1896 تأسّست إدارة الأمور العدلية، وسمّي على رأسها حاكم فرنسي، ثمّ تأسّست المحاكم العدلية تدريجيًا. ففي 18 مارس 1896 أنشئت محاكم جهوية في صفاقس وقابس وقفصة. وفي 25 فيفري/فبراير 1897 صدر أمر عليّ يقضي بتأسيس محكمة بسوسة، وأخرى بالقيروان. وفي السنة الموالية أسّست محكمة الكاف. أمّا المحكمة الابتدائية بالحاضرة فقد تأسّست بمقتضى أمر مؤرخ في ماي 1900، وتأخّر إحداث محكمة باجة حتى سنة 1930. وحدد الأمر الصادر في 18 مارس 1896 كيفية تركيب المحاكم وانتخاب القضاة والأبحاث وإنابة المحامين عن الخصوم وبيان مرجع النظر والإجراءات.

ولئن كانت الايالة التونسية تشتمل على طوائف وجاليات وأقلّيات غير مسلمة فقد جاء عهد الأمان سنة 1857 لحمايتها. إذ تنصّ مادته الرابعة على “أنّ التونسي غير المسلم لا يجبر على تبديل دينه، ولا يمنع من إجراء ما يلزم ديانته، ولا تمتهن معابده، وله ما لنا، وعليه ما علينا”. وتنصّ مادته الثامنة على “أنّ سائر الرعية من مسلمين وغيرهم لهم المساواة في الأمور العرفية والقوانين الحكمية لا فضل لأحدهم على الاخر في ذلك”. وجاء في المادة العاشرة “إنّ الوافدين على البلاد لهم أن يحترفوا ما شاؤوا من الصنائع والأعمال بشرط احترام قانون البلاد”. وتشير المادة الموالية إلى حرية الملكية العقارية. ويشتمل عهد الأمان على إحدى عشرة مادة، منها ستّ جاءت لحماية حقوق هذه الأقلّيات ورعايتها، بما يضمن لها الأمن وحرية الدين والمساواة في المعاملات وحرية العمل والتملك. وتطبيقًا لمادته الأولى تكوّنت المجالس القضائية الخاصة بالجالية اليهوديّة .

وبعد انتصاب الحماية الفرنسية صدر القانون الفرنسي المؤرّخ في 27 مارس 1883, والقاضي بإنشاء محاكم فرنسية بتونس العاصمة، وبنزرت، وسوسة، وصفاقس، والكاف، تنظر في القضايا التي تحدث بين الفرنسيين أو المحتمين بفرنسا. وأصدر الباي أمرًا مؤرخًا في 4 أفريل/أبريل 1883 يقضي بإجراء العمل بذلك القانون الفرنسي وتطبيقه بالبلاد التونسية .
ومع تأسيسه سنة 1920 طالب الحزب الحرّ الدستوري بجمع شتات المحاكم وإصلاحها وإصلاح نظام الوكلاء ودعم مبدأ فصل الإدارة عن القضاء، ما أسفر عن إنشاء وزارة العدل التونسية بتاريخ 26 أفريل/ 1921.
وبعد نيل الاستقلال في عام 1956 أصبح القضاء موحّدًا وطنّيًا تونسيًّا، وأصبحت المحاكم التونسية صاحبة النظر في جميع القضايا مهما كان صنف المتقاضين. وقد أدّت توْنسة القضاء التونسي وتعميم المحاكم الجهوية إلى تعزيز مبدأ الوصول إلى العدالة وإزالة الحواجز الدينية والعرقية والجهوية التي تحول دون تكريس حق المساواة أمام القانون وتوحيد مسار الوصول الى العدالة.

1- دولة الاستقلال: دستَرَةُ القضاء وشرْعَنةُ عنف الدولة الاقتصادي

أ‌. بداية إرساء منظومة قضائية وطنية واسترداد الأراضي والممتلكات من المعمّرين الفرنسيين ومصادرة أملاك البايات:

مثّل نيل تونس استقلالها التامّ في 20 مارس 1956 نقطة تحوّل مفصلية في مسار العدالة في تونس حيث تمّ انهاء العمل بالمحكمة الشرعية المعروفة بالديوان التي تواصل العمل بها قرنًا كاملًا من سنة 1856 إلى سنة 1956. كما تمّ انهاء العمل بالمحكمة الفرنسية وكذلك الحال بالنسبة إلى محكمة الأحبار اليهودية بمقتضى القانون الصادر في 9 سبتمبر 1957، الذي يقضي بإلغاء مجلس الأحبار اعتبارًا من غرة أكتوبر 1957 على أن تنقل جميع القضايا الجارية به إلى المحكمة الابتدائية. وبناء على ذلك أُحدثت إدارة الشعائر الدينية لليهود. وأصبحت قضايا الأحوال الشخصية لليهود تخضع لأحكام مجلة الأحوال الشخصية الصادرة في 13 أوت 1956.

جملة هذه الخطوات الجذرية لم توحّد المنظومة القضائية التونسية فحسب بل جعلتها مركّزة بشكل مباشر أو غير مباشر بين يدي السلطة التنفيذية التي يتداخل فيها الحزب مع الدّولة الفتيّة. تلك الدّولة الخارجة لتوّها من نظام البايات الملكي باتّجاه نظام جمهوري فُرض فرضًا على الباي نفسه بموجب دستور 1959 الذّي أقرّ الجمهورية نظامًا جديدا للدولة خالعًا بذلك الباي من سدّة الحكم.

خلعُ الباي كان مقدّمة لسلسلة من الإجراءات التي وصفتها جريدة “لاكسيون” لسان حال الحزب آنذاك بـ”الثورية” خاصّة مع مصادرة أملاك العائلة الحاكمة بموجب القانون عدد 34 لسنة 1969 المتعلّق بمصادرة عامة أملاك المرحوم حسين بن محمد بن الناصر باي. وقد تحدّثت الاذاعة التونسية، وهي أوّل اذاعة حكومية تأسّست في تونس، آنذاك بإطناب عن قانون المصادرة المذكورة عاكسة وجهة نظر السلطة الحاكمة بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة دون أيّ توجّه نقدي للقانون.

ولئن ارتكزت مصادرة أملاك الباي وعائلته إلى قانون أضفى الصبغة الشرعية على الاجراء وأخرجه من خانة “الاعتداء على أملاك الغير” خاصّة أنّ الأملاك المصادرة تمّت احالة ملكيّتها الى الدولة التونسية، فانّ هذه القضيّة ستطفو على السطح مجددًا بعد أكثر من 40 سنة على إثر انهيار نظام السابع من نوفمبر وتأسيس هيئة الحقيقة والكرامة التي من بين مهامّها إعادة فتح ملفات الماضي. 

محمد الأمين باي

ب. تجربة التعاضد

خلال الفترة الفاصلة بين سنتي 1962 و1969 قام أحمد بن صالح الوزير الأسبق والذراع اليمنى للزعيم الراحل الحبيب بفرض نظام اقتصادي جديد ينهل من الاشتراكية ويقوم على أساس تجميع الملكية ووسائل الإنتاج لدى الدولة بعد انتزاعها من الملّاك . سمّيت هذه التجربة التي لم تدم طويلًا بـ”تجربة التعاضد” وقد عادت بالوبال على مؤسسها الذي وجد نفسه يواجه محاكمة لا تخلو من التنكيل السياسي حيث تمّ اعفاؤه من الوزارة وتحميله مسؤولية فشل التجربة واحالته سنة 1970 الى المحكمة العليا بتهمة الخيانة العظمى، وحُكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة 10 سنوات قضّى منها 3 سنوات ثمّ سرعان ما تمكّن من الهرب من السجن واللجوء إلى الجزائر .

تجربة التعاضد، وتعني مصادرة الملكيات الفردية وجعلها ملكيات جماعية (تشاركية) برعاية الدولة، وُوجِهت آنذاك برفض شعبي كبير خاصة من قبل ملّاك الأراضي والفلاحين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة عصا الدولة الغليظة دون القدرة على الوصول إلى العدالة من أجل التصدّي لهذا التوجّه غير العادل وفق وجهة نظرهم. في الأثناء كان أحمد بن صالح رجل الدولة القويّ والماسك بكل الوزارات الاقتصادية، يحظى خلال بداية شروعه في تطبيق تجربة التعاضد بمساندة كبيرة من قبل الاتحاد العام التونسي للشغل بالإضافة الدعم الإعلامي حيث أطنبت الصحف الصادرة آنذاك وفي مقدمتها صحيفة “العمل” لسان حال الحزب الحاكم، في تفسير التجربة والتقليل من مساوئها والتركيز على ايجابيتها الاقتصادية.

لم يجد أصحاب الملكيات الخاصة الذين فقدوا أملاكهم بموجب تجربة التعاضد أيّ مجال للتظلّم واسترداد الحقوق طيلة فترة التجربة، فالقضاء كان في خدمة الدولة وتحت تصرّفها وأمّا الإعلام فقد كان منحازًا إلى السلطة متغاضيًا إلى حدّ كبير عن إستغاثات الناس الذين تمّ انتزاع أملاكهم وتجميعها بين يدي الدولة في شكل تعاضديات .

أحمد بن صالح الوزير األسبق والذراع اليمنى للرئيس األسبق الحبيب بورقيبة

لم تكتف الدولة آنذاك، بانتزاع الاملاك الخاصة فحسب بل وجدت نفسها مضطرّة للترفيع في الضرائب من أجل تمويل السياسة التعاضدية ، وذلك بنسبة %22.5 بين 1962 و1970، دفعت الشرائح السكانية المتوسطة والدنيا القسط الأوفر منها (%72.2). كما تمّ الاعتماد بصفة رئيسية على القروض الأجنبية وخاصة المتأتية من الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي للإنشاء والتعمير. ومثّلت هذه التمويلات %40 من مجموع الاستثمارات خلال عشرية الستينات.

0 هكتار
ما يساوي 1762 تعاضدية فلاحية

خلال تلك الفترة الوجيزة التي خضع خلالها الاقتصاد التونسي إلى تجربة التعاضد عمدت الدولة الى تأميم كل الأراضي الصالحة للزراعة تقريبًا حيث أصبح هناك في أوت/أغسطس 1969 ما يساوي 1762 تعاضدية فلاحية تمسح قرابة 4110000 هكتار. وكانت هذه التعاضديات خاضعة لتسيير الدولة عن طريق موظّفيها في الجهات ويبدو أن هذا التسيير كان سطحيًا في الكثير من التعاضديات .

بالنسبة إلى الصحف الصادرة في تلك الفترة، بشقّيها الحزبي والمستقلّ، لم يكن الأمر معقّدًا جدًّا، اذ بمجرّد أن قرّر الزعيم الحبيب بورقيبة إنهاء تجربة التعاضد وتعليق شمّاعة الفشل على مهندس التجربة أحمد بن صالح وإحالته على أنظار المحكمة العليا حتى انقلبت الصحف على بن صالح وبادرت بفتح صفحاتها لمحاكمته شعبيًا قبل أن يحين موعد محاكمته أمام القضاء.
كانت جريدتا “العمل” و”لاكسيون” لسان حال الحزب الحاكم باللغتين العربية والفرنسية، تُطنبان في تحليل الخطاب الذي ألقاه بورقيبة خلال زيارته للقاهرة في فيفري/ فبراير 1965 حيث قال بورقيبة شارحًا سياسة التعاضد: “رأينا أن طريق النجاعة هو أن تتولى الدولة نفسها الاضطلاع بأكبر المهام الاقتصادية وتوجه بواسطة التخطيط كل ما ينجز في البلاد… ولذا فإن عهد الحرية الاقتصادية المطلقة قد انقضى” . هذه الكلمات التي كانت الصحف تتبنّاها بشكل أعمى سرعان ما سقطت من مانشيتّات الصحف وحلّت محلّها محاكمات شعبية لأحمد بن صالح ولتجربته “الهجينة” و”الفاشلة” حين وصف صحيفة العمل. حصل ذلك بمجرد أن قرّر بورقيبة انهاء العمل بالتجربة دون أن تتكبّد تلك الصحف عناء تقديم قراءة موضوعية للتجربة أو اتاحة المجال لقراءات مختلفة حول الموضوع.

ج. اعلام تونسي مجنّد لتطبيق "توجيهات الرئيس":

خلال فترة بناء دولة الاستقلال وجد الرئيس الحبيب بورقيبة نفسه يلعب دورين اثنين ويضطلع بسلطتين اثنتين: دور الزعيم الوطني ذي السلطة السياسية شبه المطلقة ودور الأب الروحي ذي السلطة الاخلاقية يمارسها على أبنائه من أبناء شعبه من خلال التوجيه والنصح والارشاد.
صنع بورقيبة لنفسه هالة من القدسية، فهو “الزعيم الأوحد” و”المجاهد الأكبر” و”جالب الاستقلال” و”باني دولة الاستقلال” الخ. كلّ تلك الصفات التي كرّسها الاعلام من خلال الدعاية المكثفة جعلته يحظى بسلطة أخلاقية على شعبه، ما دفع به للتواصل يوميًا مع “أبنائه” عبر موجات الاذاعة الوطنية وعبر التلفزيون العمومي في ركن يومي يسمّى “توجيهات الرئيس”.

كان هذا الركن بمثابة اطلالة يومية للرئيس على “أبنائه” ليعلّمهم أصول الوطنية والتحضّر واللباس والأكل والتفاني في العمل وصولًا إلى نظافة الجسم والهندام . ساهمت تلك الدعاية المغلّفة بالتوجيه والإرشاد في توظيف الإعلام وتحويله إلى مجرد بوق تابع للسلطة ولرئيس الجمهورية رأسًا، ما جعل من امكانية النقد والتقييم لآداء الحكم أمرًا مستحيلًا تمامًا.ريات الأساسية وفرض الرقابة على الإعلام .

استعمل بورقيبة كل السلطات المجمّعة بين يديه، ووجّه “عنف الدولة الشرعي” نحو القضاء على معارضيه وخصومه السياسيين دون أن يستثني رفاق الكفاح من أجل الاستقلال، وخاصة من عرفوا بـ”اليوسفيين”، أي أتباع صالح بن يوسف الذي اغتيل في فرانكفورت بألمانيا في أغسطس 1961.
خاض بورقيبة حربًا ضروسًا يسارًا ويمينًا ضدّ الحزب الشيوعي الذي عمد إلى تجميد نشاطه عام 1962، وضدّ الإسلاميين (حركة الاتجاه الإسلامي وحركة النهضة لاحقًا) ونكّل بهم بعد فترة وجيزة من الهدنة استثمرها في حربه على المعارضة اليسارية التي شلّ فاعليتها وألغى الحريات الأساسية وفرض الرقابة على الإعلام .

ثمّ لم يلبث أن أقر نظام الحزب الواحد وشرعن ذلك بتعديل دستوري في 27 ديسمبر 1974 سمح له برئاسة الدولة مدى الحياة.

2- تغيير 7 نوفمبر 1987: "عهد جديد" ووعود جديدة

مثّل صعود الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي إلى سدّة الحكم بتاريخ 7 نوفمبر 1987 بعد ازاحة خلفه بورقيبة، تغييرًا جذريًا في منظومة الحكم التي تهرّأت وأصبحت عبئًا على تواصل مؤسسات الدولة.
جاء “تغيير السابع من نوفمبر” وفق التسمية الرسمية التي أطلقها نظام بن علي، بمثابة طوق نجاة للمكوّنات السياسية والمنظمات والنقابات التي عانت خلال الفترة الأخيرة من حكم بورقيبة حالة من التضييق والقمع أصبح معها النشاط مستحيلًا داخل التراب التونسي خاصة مع تنامي المحاكمات السياسية أمام محكمة أمن الدولة وقمع كل نفَس معارض.

أ‌. انفجار في حرّية الصحافة وتناول حرّ للنزاعات والقضايا المنشورة

تميّزت السنوات الثلاث الأولى من حكم بن علي بانفجار في حرية الصحافة والتعبير حيث أصبحت وسائل الإعلام المحلية تتناول بالنقد والتحليل كل ما يصدر عن الرئيس الجديد وفريقه الوزاري، فضلًا عن فتح الصحف لأعمدتها وصفحاتها للمعارضين بشتّى ألوانهم السياسية والايديولوجية للتعبير بشكل حرّ وتقديم تصوراتهم لتونس الجديدة بقيادة الرئيس بن علي.
وقد طفت على السطح مجموعة من القضايا التي تناولها الإعلام بكثير من الحرية على غرار الحقّ في التقاضي والتعويض عن سنوات ما سمّي آنذاك بـ”العهد السابق” في اشارة الى فترة حكم الرئيس بورقيبة التي اتّسمت بالاستبداد وتوظيف أجهزة الدولة من أجل السيطرة على مفاصل الحكم وقمع كل صوت مخالف.
كان الإعلام يهرول باتّجاه الانفتاح على كل الألوان والمكونات السياسية والايديولوجية في حركة وصفها عدد من المؤرّخين بـ”التطهّر” من حالة الخضوع والتوظيف التي عاش على وقعها طيلة ثلث قرن تحت حكم بورقيبة. غير أنّ حالة التطهّر والانفتاح جعلته يومًا بعد يومًا ينساق الى توجّه جديد ويميل إلى الدعاية للنظام الجديد الذي تلقّف الهدية بسرعة وشرع مع نهاية فسحة الحرية التي دامت حوالي 3 سنوات في قمع كل المعارضين وتكميم الأفواه والعودة إلى مربّع الاستبداد.

ب‌. عودة قويّة لتوظيف الإعلام من قبل منظومة الحكم النوفمبري

نهاية فسحة الحريّة انجرّ عنها تجميد أنشطة أحزاب المعارضة الراديكالية والسيطرة على وسائل الإعلام بعامّها وخاصّها والدخول في حقبة جديدة قوامها “التطبيل” لإنجازات نظام السابع من نوفمبر الذي رفع شعارات رنّانة تبيّن لاحقًا أنّها لم تكن سوى مجرد دعاية سياسية لحشد الشرعية اللازمة لمنظومة الحكم الجديدة والاعتراف بها داخل تونس وخارجها . 

عادت الصحف ومؤسسات الإعلام العمومي إلى عادتها القديمة، وأصبحت أداة طيّعة بين يدي النظام الجديد/القديم الذي اغتنم الفرصة وقام بـ”تقنين” عملية الاحتواء عبر انشاء وزارة الاتصال وذراعها الدعائية “الوكالة الفنية للاتصال الخارجي”. تكفلّت تلك الوكالة التي سيقع حلّها رفقة الوزارة لاحقًا بعد ثورة 2011، بشراء ذمم عدد كبير من الإعلاميين وتدجين أغلب المؤسسات الاعلامية عبر اتّباع سياسة العصا والجزرة، فمن يسير في فلك النظام يؤتى خيرًا كثيرًا ومن يجاهر بغير ذلك تمنع عن المساعدات والاعلانات وتحاصره القضايا وحملات التشهير الممنهجة وقد يصل به الأمر إلى المحاكمات والسجن . 

أدّت حالة خنق الإعلام وتدجينه من قبل السلطة إلى تغاضي الإعلام عن نشر حالات الفساد والتطرق إلى القضايا والشكاوى التي كانت تتعلّق بالمتنفذين والمقربين من القصر ومن عائلتي بن علي والطرابلسي وقيادات من الحزب ورجال أعمال مقربين من السلطة.
في المقابل كان عدد كبير من الصحف الخاصة على غرار “الحدث” و”الصريح” و”الاعلان” و”الملاحظ” و”الشروق” الخ يفتح صفحاته كلّما طلبت منه السلطة منه ذلك لشنّ حملات ضدّ عدد من الحقوقيين والمعارضين الذين أزعجوا النظام بمواقفهم. وكانت تلك الصحف تهاجمهم وتنصب لهم محاكمات اعلامية وتتّهمهم بالعمالة للغرب والتمسّح على أعتاب السفارات الأجنبية والاستقواء بالأجنبي والخيانة العظمى والمساس بسيادة الوطن الى غير ذلك من التهم الجاهزة. ولم يكن بالإمكان محاكمة تلك الصحف نظرًا الى أنّها كانت تتمتّع بما يشبه الحصانة.
في تلك الأثناء، كان مفهوم العدالة واستقلال القضاء والمساواة والإنصاف أمام القانون واسترداد الحقوق مجرّد شعارات رنانة توشّح بشكل شبه يومي أعمدة الإعلام التونسي من أجل الدعاية لخطابات الرئيس الأسبق الذي كان يرفع شعار “دولة القانون والمؤسسات”.
ووسط هذه المساحة من الظلام، كانت بعض الصحف الحزبية أو المحسوبة على المعارضة التقدمية على غرار “الموقف” لسان حال الحزب الديمقراطي التقدمي و”الطريق الجديد” الصادرة عن حزب التجديد (المسار الآن) و “مواطنون” الصادرة عن التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات و”الشعب” لسان حال الاتحاد العام التونسي للشغل، بالإضافة إلى بعض الصحف المستقلة التي كانت تصدر خارج تونس (الجرأة، موقع نواة، موقع تونس نيوز الخ)، كانت بمثابة الصوت البديل الذي يتطرّق إلى المواضيع المحرّمة رسميًا ويكشف فساد النظام ويدافع عن حرية الصحافة والتعبير واستقلالية القضاء وتعزيز أسس العدالة بما هي ركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية.

أدّت حالة خنق الإعلام وتدجينه من قبل السلطة إلى تغاضي الإعلام عن نشر حالات الفساد والتطرق إلى القضايا والشكاوى التي كانت تتعلّق بالمتنفذين والمقربين من القصر ومن عائلتي بن علي والطرابلسي وقيادات من الحزب ورجال أعمال مقربين من السلطة.
في المقابل كان عدد كبير من الصحف الخاصة على غرار “الحدث” و”الصريح” و”الاعلان” و”الملاحظ” و”الشروق” الخ يفتح صفحاته كلّما طلبت منه السلطة منه ذلك لشنّ حملات ضدّ عدد من الحقوقيين والمعارضين الذين أزعجوا النظام بمواقفهم. وكانت تلك الصحف تهاجمهم وتنصب لهم محاكمات اعلامية وتتّهمهم بالعمالة للغرب والتمسّح على أعتاب السفارات الأجنبية والاستقواء بالأجنبي والخيانة العظمى والمساس بسيادة الوطن الى غير ذلك من التهم الجاهزة. ولم يكن بالإمكان محاكمة تلك الصحف نظرًا الى أنّها كانت تتمتّع بما يشبه الحصانة.
في تلك الأثناء، كان مفهوم العدالة واستقلال القضاء والمساواة والإنصاف أمام القانون واسترداد الحقوق مجرّد شعارات رنانة توشّح بشكل شبه يومي أعمدة الإعلام التونسي من أجل الدعاية لخطابات الرئيس الأسبق الذي كان يرفع شعار “دولة القانون والمؤسسات”.
ووسط هذه المساحة من الظلام، كانت بعض الصحف الحزبية أو المحسوبة على المعارضة التقدمية على غرار “الموقف” لسان حال الحزب الديمقراطي التقدمي و”الطريق الجديد” الصادرة عن حزب التجديد (المسار الآن) و “مواطنون” الصادرة عن التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات و”الشعب” لسان حال الاتحاد العام التونسي للشغل، بالإضافة إلى بعض الصحف المستقلة التي كانت تصدر خارج تونس (الجرأة، موقع نواة، موقع تونس نيوز الخ)، كانت بمثابة الصوت البديل الذي يتطرّق إلى المواضيع المحرّمة رسميًا ويكشف فساد النظام ويدافع عن حرية الصحافة والتعبير واستقلالية القضاء وتعزيز أسس العدالة بما هي ركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية.

ج . فتح نوافذ لحرية التعبير تحت رعاية السلطة للتنفيس

مع بداية العشرية الأولى من الألفية الثانية، بدأ نظام بن علي يواجه ضغوطات متنامية من مكونات المجتمع المدني والنقابات داخليًا ومن شركاء تونس خارجيًا (الاتحاد الأوروبي، صندوق النقد الدولي الخ) من أجل القيام بإصلاحات لدعم حرية التعبير واستقلال القضاء وتعزيز التعددية الحزبية الفعلية. هذه الضغوطات دفعت ببن علي الطامح إلى ولايات حكم جديدة للتنفيس بعض الشيء على الأعلام خاصّة مع استقبال تونس سنة 2005 للمرحلة الثانية من القمة العالمية لمجتمع المعلومات .

ووفقاً للقرار 56/183 للجمعية العامة للأمم المتحدة تم تنظيم القمة العالمية من مرحلتين – جنيف، 12-10 ديسمبر 2003 وتونس 1816 نوفمبر 2005. وكُلّف الاتحاد الدولي للاتصالات بولاية آداء الدور الرائد في الأعمال التحضيرية بالتعاون مع الجهات المهتمة الأخرى من المنظمات والشركاء. وبناء على ذلك فقد اضطرّ النظام التونسي إلى التنازل بعض الشيء عن بعض مساحات حرية التعبير والنشاط السياسي. وقد دامت هذه الوضعية نحو 3 سنوات ظهرت خلالها بعض البرامج الجريئة نوعًا والتي تطرّقت أساسًا الى الحق في الوصول العدالة إلى عامة الناس ممّن يجدون صعوبة في ذلك. من بين هذه البرامج نذكر برنامج “الحق معاك” على القناة العمومية تونس 7 الذي تمّ منع بثّه لاحقًا، وبرنامج “الحقيقة” على قناة حنّبعل الخاصة وبرنامج “بالمكشوف” الذي يعنى بكشف ملفات الفساد الرياضي اضافة الى برامج اذاعية ذات صبغة اجتماعية أو اقتصادية.
صفّر النظام نهاية فسحة الحرية مع اندلاع أحداث الحوض المنجمي سنة 2008. ثمّ سرعان ما أحكم قبضته من جديد على الإعلام وقام بتوظيفه للدعاية السياسية لانتخابات 2009 .

3- ثورة 17 ديسمبر - 14 جانفي/يناير: العدالة الانتقالية بين هيئة بن سدرين وقانون الرئيس

مع موفّى عام 2010 وبداية عام 2011 اهتزّ نظام السابع من نوفمبر تحت وطأة احتجاجات شعبية عارمة دفعت بالرئيس بن علي إلى مغادرة تونس باتجاه المملكة العربية السعودية منفاه الأخير حتّى وفاته سنة 2019.
احتجاجات 17 ديسمبر-14 جانفي/يناير سرعان ما تحوّلت مطالبها من اجتماعية صرفة تنادي بالكرامة والحق في العمل الى سياسية تدعو إلى تصفية إرث بن علي واجتثاث مقومات نظامه ما أسفر عن حلّ الحزب الحاكم وحل البرلمان والشروع في تفكيك منظومة الحكم بما في ذلك حل وزارة الاتصال والوكالة الفنية للاتصال الخارجي .

أ‌. تخمة في تغطية أخبار القضايا المتعلقة بكوادر العهد السابق

خلال الفترة التي تلت انهيار منظومة حكم بن علي تحرّرت وسائل الإعلام التونسية من الرقابة التي فرضت عليها على مدى أكثر من عقدين من الزمن. وبناء على ذلك فقد عاش التونسيون على وقع إعلام جديد تحرّر من سلطة النظام وانخرط فيما سمّي آنذاك “اعلام الثورة” امّا تقيّة حتّى تتضّح معالم النظام الجديد وامّا تطهّرا من خطايا الماضي وسعيًا الى الالتحاق بركب الثورة والاستفادة أكثر ما يمكن من مساحة الحرية المتاحة قبل حصول مستجدات قد تسلبهم هذه المساحة وتعيدهم إلى مربّع التوظيف وتكميم الأفواه من جديد . 

 تميّزت السنوات الأولى للثورة بتركيز وسائل الاعلام التونسي بشتى انتماءاتها على انتهاكات الماضي، من خلال فتح ملفات الماضي والعودة إلى أهم القضايا الكبرى التي شغلت الرأي العام ولم يتسنّ التطرّق اليها سابقًا بسبب الرقابة. من بين تلك القضايا نذكر ما يسمّى بـ”المجموعة العسكرية ببراكة الساحل” و”المحاكمات السياسية” و”الملاحقات الأمنية للطلبة” و”مجموعة سليمان الجهادية” فضلًا عن فتح ملفات أخرى كان “أبطالها” أصهار بن علي وعدد من المقربين منه ممّن قاموا بانتزاع أملاك الناس عنوة.
اتّسم هذا التناول الإعلامي بالتركيز على الضحايا وبحضور قويّ للمحامين والقضاة والمتضررين في البلاتوهات (قضايا بن علي، عماد الطرابلسي، بلحسن الطرابلسي، سليم شيبوب الخ). وقد بات الإعلام خلال السنوات الأولى للثورة ملاذا لكل من له قضية عالقة وكل المتضررين من العهد السابق. وقد تمّ استعمال الاعلام كورقة ضغط على القضاء للتسريع في التعاطي مع القضايا المنشورة وانصاف الضحايا.

ب‌. العدالة الانتقالية ... مادّة دسمة للإعلام لم تخلُ من توظيف إيديولوجي وسياسي

مطلع سنة 2014 رأت هيئة الحقيقة والكرامة النور، وهي الهيئة المنوط بها الإشراف على مسار العدالة الانتقالية بمختلف مراحلها، وهي هيئة مستقلة تتمتّع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي .

وتتولّى الهيئة، كشف الحقيقة عن مختلف الانتهاكات ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا لتحقيق المصالحة الوطنية. ويغطي عمل الهيئة الفترة الممتدّة من الأول من شهر جويلية/يوليو 1955 إلى حين صدور القانون المنشئ لها.
وتقوم الهيئة بمهامها طبقا للقانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلّق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها وللقانون الأساسي عدد 17 لسنة 2014 المؤرخ في 12 جوان/يونيو 2014 المتعلّق بأحكام متّصلة بالعدالة الانتقالية وبقضايا مرتبطة بالفترة الممتدّة بين 17 ديسمبر 2010 و28 فيفري 2011 وطبقًا لنظامها الداخلي ولأدلّة الإجراءات الخاصّة بها.
في شهر نوفمبر من سنة 2016 شرعت الهيئة في تنظيم أولى جلسات الاستماع العلنية لضحايا منظومة الاستبداد . وقد تمّ بثّ الجلسات مباشرة على القناة العمومية (الوطنية 1) فضلًا عن بثّها بشكل كلي أو جزئي على عدد كبير من القنوات والمنصات الرقمية الأخرى حيث حظيت بمتابعة قياسية من قبل التونسيين لما تضمّنته من اعترافات وشهادات حول جملة الانتهاكات والظلم التي أتته الأنظمة السابقة.
مثّلت جلسات الاستماع المتلفزة مساحة ذهبية لإعلاء مفهوم العدالة وتقريبه من الناس وتفكيك منظومة الانتهاكات بشكل مبسّط مع التركيز على الجانب الإنساني عبر استحضار شهادات الضحايا ومكافحتها باعترافات عدد من المتّهمين بدل التركيز على الجانب الإجرائي والقانوني المعقّد. كانت تلك الجلسات بمثابة ردّ للاعتبار وإرساء للعدالة بالنسبة إلى عدد من المتضررين الذين أعلنوا إسقاط حقّهم في التتبّع القضائي معتبرين أنّ اطّلاع الناس على ما تعرّضوا له من انتهاكات هو في حذّ ذاته اقامة للعدالة وانتصار لهم.
في الأثناء، لم تخلُ العدالة الانتقالية من التوظيف السياسي والايديولوجي وهو ما انعكس بالسلب على أداء عدد كبير وسائل الإعلام التي ما انفكّت امّا تنحاز للمدافعين مسار العدالة الانتقالية أو لمعارضيه دون تقديم قراءة موضوعية تعرّي ايجابيّات المسار ونقائصه.

ج . قانون المصالحة الإدارية والاقتصادية .. حضور قويّ في الإعلام وسط قراءات قانونية وسياسية متضاربة:

مع صعود الرئيس السابق الراحل الباجي قائد السبسي إلى الحكم وانتخابه رئيسًا للجمهورية موفّى سنة 2014 سارع إلى تكليف عدد من الخبراء بإعداد “قانون المصالحة الادارية والاقتصادية” المعروف بـ”قانون المصالحة”، وهو قانون يكرّس -حسب معارضيه- سياسة الإفلات من العقاب ويقف حجر عثرة أمام استكمال مسار العدالة الانتقالية بقيادة رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين التي أضحت خصمًا لدودًا للرئيس الباجي قائد السبسي .

قانون المصالحة فجّر خلافًا كبيرًا بين رئاسة الجمهورية ومساندي القانون من جهة وبين هيئة الحقيقة والكرامة ومساندي مسار العدالة الانتقالية من جهة أخرى. هذا الخلاف سرعان ما تلقّفته وسائل الإعلام وحوّلته الى مادّة دسمة تؤثث البرامج الحوارية ونشرات الاخبار. وبالرغم من التوظيف السياسي والايديولوجي للصراع بين المؤسستين الّا انّ دخول الاعلام على خطّ الصراع وبثّه له جعل مسألة العدالة الانتقالية تخرج من أروقة الحقوقيين ودوائر القضاء المختّصة لتصل إلى عامّة الناس وتصبح شأنًا شعبيًا بامتياز.
هذا الاهتمام الشعبي تُرجم على أرض الواقع الى تحركات جماهيرية مساندة لمسار العدالة الانتقالية ومناهضة لقانون المصالحة ومن وراءه سياسة الإفلات من العقاب. ولعلّ أبرز تجلّيات تلك التحركات كانت حركة “مانيش مسامح” التي بسّطت مفهوم العدالة ومحاربة الإفلات من العقاب ونزلت بها الشوارع.

الجزء الثاني: الإطار القانوني للحق في الولوج إلى العدالة بين التكريس والإشكاليات

الجزء الثاني: الإطار القانوني للحق في الولوج إلى العدالة بين التكريس والإشكاليات

يُعرّف الحق في الولوج الى العدالة بأنّه الحق في النفاذ أو التوجه ‏لسائر المحاكم وممارسة الدفاع عن الحقوق المادية والمعنوية عن طريق التقاضي بجميع فروعه يعتبر من أهم ‏مبادئ سيادة القانون وشرطًا ضروريًا لحماية حقوق الأفراد وضمان التماسك الاجتماعي للمجتمع وتحقيق السلم الأهلي.

ولعله وقبل التوسع في مفهوم الولوج إلى العدالة وتناوله بالدرس أيضًا من حيث كونه رافعة مهمة للاقتصاد وشديد ‏الارتباط بمحركات الاستثمار وتحقيق المساواة في الفرص على المستوى الاقتصادي والمساواة أمام الإدارة عمومًا ‏وإدارة الجباية على وجه الخصوص فإنه يتعين أولًا طرح أهم المصادر القانونية المنظمة للمبادئ التي تحكم الولوج إلى ‏العدالة بمفهومها المختزل في الحق في التقاضي والضمانات التي يقتضيها والتي قمنا بترتيبها على نحو ما تقتضيه ‏هرمية القوانين من القانون الأعلى درجة إلى الادنى.

والجدير بالملاحظة هو أن النصوص الخاصة بالولوج إلى العدالة بمعنى التقاضي متناثرة بين مجموعة كبيرة ‏من النصوص القانونية سواء على المستوى الدولي أو على المستوى الوطني. ‏
وحتى لا يكون هذا العرض مقتصرًا على سرد للنصوص القانونية المتعلقة بحق النفاذ إلى التقاضي فإنه من المتعين طرح الإشكاليات القانونية والواقعية التي تفرزها تلك النصوص والتي تُعيق ممارسة ذلك الحق سواء كليًا أو جزئيًا.

مثل دستور27 جانفي/يناير 2014 حدثًا هاما من خلال إرسائه لمبادئ ما اصطلح على تسميته بالجمهورية الثانية وقد أقرّ الفصل 108 منه أنه :

أما الباب الثاني بعنوان “الحقوق والحريات” فقد نصّ صلب فصله 27 على أنّ: 

كما أكد الفصل 105 أن : 

يتضح إذن أن الدستور التونسي كفل الحق في المحاكمة العادلة ووفر المبادئ الاساسية للولوج إلى القضاء وفق ما هو متعارف ‏عليه صلب المعاهدات الدولية، وذلك أهمية بالغة لكون النص الدستوري وهو الاعلى درجة في سلم القوانين وواجب ‏الإتباع ولا مفر من التقيد بأحكامه عند سن القوانين بمختلف أصنافها بحيث لا يمكنها الحياد على تلك المبادئ ‏التأطيرية، كما أنه من المفيد التأكيد على أن دستور 2014 كرس للمرة الأولى جملة من المبادئ الأساسية بما أنه اعتبر ان البت في النزاعات يجب أن يتم في آجال معقولة (من المفترض أن يتم تحديده من قبل فقه القضاء حسب طبيعة النزاع وهو ما لم يتم بعد) كما اعتبر أن المحاماة والتي كانت توصف بكونها مساعدة للقضاء قد أصبحت شريكًا في إقامة العدل وصاحبة دور دستوري أصلي في الدفاع عن الحقوق والحريات.
إعلان المبادئ الدستورية السالف ذكرها أسندته ميكانيزمات دستورية هامة تتعلق بالسلطة القضائية المتكونة من القضاء العادي أي (القضاء العدلي والقضاء الإداري والقضاء المالي) وإرساء المجلس الأعلى للقضاء (الفصل 112 وما بعده من الدستور) وهو ما تم بمقتضي القانون الأساسي عدد34 لسنة 2016 المؤرخ في 28 أفريل/أبريل 2016 ثم بانتخاب أعضاء المجلس المشرف على حسن سير السلطة القضائية وضمان استقلاليتها. وكذلك القضاء الدستوري من خلال تنصيص الفصل 108 من الدستور على المحكمة الدستورية والتي تمّ سنّ القانون المنظم لها منذ 03 ديسمبر 2015 ولكنها لم تر النور إلى حد الآن. بالإضافة الى إحداثه لصنف جديد من الهيئات العمومية يُسمّى الهيئات الدستورية المستقلة والتي عهد لها المؤسس بجملة من الصلاحيات في مجالات تهم حقوق الانسان والحريات الأساسية بعد أن أبعدها عن تدخل السلطة التنفيذية.
أما على المستوى الدولي فقد ضمن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الحق في الولوج الى العدالة والحق في محاكمة عادلة

ونجد على المستوى الإقليمي الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب 1981‏ وهو الميثاق الذي تم سنه واعتماده من قبل مجلس الرؤساء الأفارقة بدورته العادية رقم 18 في نيروبي (كينيا) ‏جوان/يونيو 1981 وصادقت تونس على الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب في 16 مارس 1983، ‏وقد تم التنصيص على الحق في الولوج إلى العدالة صلب المادّة 7 والتي تتعرض إلى الحق في التقاضي ‏واثبات البراءة، وحق الدفاع والحق في محاكمة عادلة .‏

وبناء على ما سبق ذكره فإننا سنبحث في هذا الجزء عن مدى تكريس البناء الدستوري والتشريعي تضمن للمبادئ الأساسية والضرورية لضمان الحق في الولوج إلى العدالة خاصة في ظل عدم اكتمال إرساء العديد من المؤسسات الدستورية كالمحكمة الدستورية والهيئات الدستورية المستقلة، وهو ما يحدّ بصفة جدية من تفعيل ذلك الحق ويجعل عملية التقييم محدودة إلى حد بعيد.

إن البحث في تكريس هذا الحق والوقوف على الإشكاليات التي تقف حائلًا أمام تحقيقه تفرض علينا أن نبحث في مدى تكريس المنظومة القانونية التونسية للحق في اللجوء على القضاء، ثم وفي مرحلة ثانية في الحق في اللجوء الى قضاء فعّال.

I - الحق في اللجوء الى قاض

ضمن الدستور التونسي الحق في الوصول إلى القاضي لأوّل مرة كما ضمن تواصل ممارسة هذا الحق في الزمن الى حين استنفاذ طرق الطعن.

أ - الحق في الوصول إلى القاضي لأوّل مرة

يفرض حق اللجوء إلى القاضي لأوّل مرة أن يكون القاضي موجودًا وأن يكون قريبًا من المتقاضي وأو يكون مختصًا وأن يتّبع المتقاضي عند رفعه الدعوى إجراءات مبسّطة وغير معقّدة.

ب - أن يكون القاض موجودا

تعرّض الدستور التونسي صلب باب السلطة القضائية الى أقضية ثلاثة وهي القضاء العدلي والقضاء الإداري والقضاء المالي وهو ما تم تفصيله بصورة أكثر وضوحا في الفصول 115 و116 و117 من الدستور.

ونستخلص من هذه الفصول أن إرادة السلطة التأسيسية اتجهت نحو المحافظة على الثنائية القضائية في تونس من خلال إقرار قضاء عدلي يتضمن القضاء المدني بكل تخصصاته والقضاء الجزائي من ناحية أولى، والقضاء الإداري من ناحية ثانية والذي يختصّ في النزاعات الإدارية. وهو ما يُمكّن المتقاضي من اللجوء إلى القاضي حسب طبيعة النزاع الذي يكون طرفًا فيه.

كما تعرض الدستور صلب فصله 117 إلى القضاء المالي لكن يبقى هذا الأخير حكراً على فئة معيّنة دون المتقاضين العاديين، فهو قضاء خاص بالمحاسبين العموميين وآمري الصرف.
وإذا ما توسّعنا في مفهوم العدالة فيُمكن أن نعتبر أنّ الولوج الى الهيئات العمومية المستقلة يندرج أيضًا في إطار الحق في الولوج إلى قاض متخصص وذلك حسب المجالات التي تتدخل فيها هذه الهيئات سواء كانت تمارس وظيفة تعديل اقتصادية أو تنشط في مجال حقوق الانسان والحريات العامة. ومثال ذلك هيئة السوق المالية والهيئة الوطنية للاتصالات والهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية والهيئة العامة للتأمين وهيئة النفاذ إلى المعلومة التي تم إحداثها بمقتضى القانون عدد 22 لسنة 2016 المؤرخ في 24 مارس 2016
وتجدر الملاحظة أن المشرّع التونسي قد أحدث هذه الهيئات المتخصّصة لتمارس كل حسب مجال تدخلها وظيفة تعديلية تسمح لها بأن تنتصب كهيئة قضائية عند البت في النزاعات التي تدخل في مجال اختصاصها.

كما خصّص الدستور قسما ثانيًا للمحكمة الدستورية التي عُهد لها دون سواها بمراقبة دستورية مشاريع القوانين وغيرها من النصوص كما هو مبين بالفصل 120 منه. ولكن وإن كانت المحكمة الدستورية لا تتعهد مباشرة بالطعون المقدّمة من المواطنين إلا أن غيابها يُعتبر الحلقة الأضعف على مستوى المنظومة القانونية ‏لما بعد ثورة 14 جانفي/يناير 2011 بما أن إمكانية الطعن في دستورية القوانين بصفة قبيلة أو بعدية (الدفع بعدم الدستورية) لازال معطلًا الأمر الذي يسند للمحاكم وللإدارة ‏في نفس الوقت أسبقية في تأويل مدى ملائمة النصوص القانونية المختلفة مع النص الدستوري وذلك دون أية مراقبة فضلًا على كونه ليس بالإمكان أمام ‏التلدد والتمنع السياسي في إنشاء المحكمة الدستورية عرض جملة من القوانين النافذة والموجودة ضمن المنظومة الوضعية التونسية الحالية والتي ‏تتعارض مع مبادئ الدستور الجديد على محك الدستورية.

وقد نص في هذا السياق الفصل 54 من القانون عدد 50 لسنة 2015 المؤرخ في 03 ديسمبر 2015 والمنظم للمحكمة الدستورية على ما يلي: للخصوم في القضايا المنشورة في الأصل امام المحاكم أن يدفعوا بعدم دستورية القانون المنطبق على النزاع.
فلا مجال إذن لحسن تكريس المبادئ الدستورية المتعلقة بالحقوق والحريات وبسير التقاضي أمام المحاكم دون تنزيل تلك الحقوق في باب الممارسة الفعلية عن طريق الولوج إلى الطعن في دستورية القوانين التي قد تمس من تلك الحقوق المضمونة نظريًا وبالتالي يمكن القول أن عدم إرساء المحكمة الدستورية يشكل عائقًا جديًا امام تكريس حقيقي وفعلي للحق في الولوج إلى العدالة طالما لا يتمتع المتقاضي بالحق الدستوري في التظلم في خصوص مدى أحقية محكمة ما في تطبيق نص قانوني سواء كان إجرائيًا أو اصليًا يعتبره ماسًا بأحد حقوقه المضمونة بنص الدستور.

2. أن يكون هذا القاضي قريبًا: قضاء القرب

يُقصدُ بقضاء القرب التوزيع الجغرافي للمحاكم في تونس وهو ما يسمح للمتقاضي أن يتجه الى أقرب محكمة لمقر سكناه وهو ما تحرص المواثيق الدولية والدساتير الوطنية على ضمانه لفائدة المتقاضي. وفي هذا الإطار نُلاحظ تواجد القضاء العدلي على كامل تراب الجمهورية من خلال محاكم الناحية والمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف ومحكمة تعقيب واحدة.

أما بالنسبة للقضاء الإداري فقد عرف تطورا هامًا منذ 2017 على مستوى قاضي القرب. اذ وبعد تمركزه بالعاصمة لمدة فاقت الأربعين سنة، تمّ بمقتضى الأمر عدد 620 لسنة 2017 والمؤرخ في 25 ماي/مايو 2017 إحداث دوائر ابتدائية متفرعة عن المحكمة الإدارية بالجهات وبضبط نطاقها الترابي وعددها 12. ويُعتبر هذا الإحداث للدوائر الجهوية خطوة أولى نحو تكريس الفصل 116 من الدستور الذي أقرّ هيكلة جديدة للقضاء الإداري على شاكلة القضاء العدلي. لكن الإشكال المطروح اليوم والذي لم يقع تجاوزه هو أن الطعن بالاستئناف ليس ممكنًا إلا أمام الدوائر الاستئنافية للمحكمة الإدارية بالعاصمة وهو ما يمثّل عائقًا أمام الحق في اللجوء إلى القضاء الإداري في الطور الاستئنافي

3. أن يكون القاضي مختصًا في النزاع:

إن ممارسة هذا الحق بصورة فعليّة وحقيقية تفرض أن يكون القاضي المتعهّد بالقضية مختصًا في موضوع الدعوى وهو ما كرّسه الدستور من خلال الفصلين 115 و116 منه.
فبالرجوع إلى الفصل 115 نتبيّن أنه ْأقر القضاء العدلي كجهاز قضائي مختص في النزاعات بين الخواص وأحال إلى القوانين لتبيّن مختلف هذه الاختصاصات.
وبالرجوع إلى مجلة المرافعات المدنية والتجارية ومجلة الإجراءات الجزائية وغيرها من النصوص القانونية تمّ التنصيص على اختصاص القضاء المدني والقضاء التجاري والقضاء الشغلي وقضاء الأحوال الشخصية والقضاء العقاري وقضاء الضمان الاجتماعي وكذلك القضاء الجزائي.

أما الفصل 116 فقد نص صراحة على أنّ القضاء الإداري يختص بالنظر في تجاوز الإدارة سلطتها، وفي النزاعات الإدارية ويُبين الفصل 17 (جديد) من قانون 1 جوان/يونيو 1972 كما وقع تنقيحه بالنصوص القانونية اللاحقة المتعلق بالمحكمة الإدارية اختصاص الدوائر الابتدائية للمحكمة الإدارية إلى جانب الاختصاصات التي أسندت للمحكمة الإدارية بنص خاص.
لكن التعقيدات المتعلقة بالازدواجية القضائية في تونس وعدم احترام مجالات اختصاص القاضي العدلي واختصاص القاضي الإداري يجعل من الصعب أحيانًا تحديد القاضي المختص في كل نزاع ومثال ذلك نزاع الانتزاع من أجل المصلحة العمومية ونزاعات الجباية ونزاعات الضمان الاجتماعي وهو ما يمثل حدًا من الحق في اللجوء إلى العدالة.
لا يكفي أن يكون القاضي مختصًا لينظر في أصل القضية ويرد الحقوق لأصحابها بل لابد أن تكون إجراءات رفع الدعوى وقبولها ميسّرة وغير معقدة.

4. أن تكون إجراءات رفع الدعوى وقبولها مبسّطة

طبقا للقوانين الإجرائية فإن الدعوى القضائية تخضع لشروط حتى يتم قبول الدعوى من طرف القاضي وهو ما سيسمح للمتقاضي من الولوج الى العدالة. فيجب ان تتوفر في المدّعي شروط تهمّ الأهلية والمصلحة والصفة في القيام لدى القضاء وإلا رفض القاضي دعواه شكلًا. هذه الشروط تعرض لها الفصل 19 من مجلة الإجراءات المدنية والتجارية عندما نصّ على: “حق القيام لدى المحاكم يكون لكل شخص له صفة وأهلية تخولانه حق القيام بطلب ما له ‏من حق وأن تكون للقائم مصلحة في القيام‎”، غير أنه في المادة الاستعجالية يمكن قبول القيام من طرف القاصر المميز إذا كان هناك خطر ملم‎.

ومن واجب المحكمة رفض الدعوى إذا تبين لها من أوراق القضية أن أهلية القيام بها منعدمة أو لم تكن ‏للطالب صفة القيام بها‎، غير أنه إذا كان شرط الأهلية المقيدة هو المختل عند القيام فإن تلافيه أثناء نشر القضية يصحح ‏الدعوى‎.
وتقضي المحكمة فيما وقعت إثارته في هذا الشأن طبق ما هو مبين بالفصل 16″.
كما تعرض قانون المحكمة الإدارية المؤرخ في 1 جوان/يونيو 1972 في فصله السادس إلى شرط المصلحة وقد حاء فيه: “القيام بدعوى تجاوز السلطة يقبل من طرف كل من يثبت أن له مصلحة مادية أو معنوية في إلغاء مقرر إداري”، وتفرض صحة الإجراءات أيضًا ان يتم تمثيل المدعي تمثيلًا صحيحًا.
كما يتعيّن على القائم بالدعوى أن يرفع دعواه في الآجال المنصوص عليها بالقوانين وذلك حسب طبيعة الدعوى (مدنية، جزائية أو إدارية) إذ ينص الفصل 402 من مجلة الالتزامات والعقود ان “كل دعوى ناشئة عن تعمير الذمّة لا تُسمع بعد مُضيّ خمس عشرة سنة عدا ما استثني بعد وقرره القانون في صور مخصوصة”.
أما في المادة الإدارية مثلًا وبالتحديد في مادة إلغاء القرارات الإدارية، تُرفع دعوى تجاوز السلطة في ظرف الشهرين الموالين لتاريخ النشر أو الإعلام بالقرار المطعون فيه وهو ما نصّ عليه الفصل 37 من قانو المحكمة الإدارية المؤرخ في 1 جوان/يونيو 1972. أما في صورة تمّ القيام بالدعوى بعد فوات الأجل المنصوص عليه بالقانون يسقط حق المدّعي في القيام.
ويُطرح التساؤل حول ما إذا كانت هذه الشروط التي أقرّها المشرع لقبول الدعاوى تمثّل حاجزًا أمام الولوج إلى القاضي، فإن هذه الإجراءات مُعتمدة في جميع الأنظمة القانونية وهي لا تتعارض والحق في الولوج الى العدالة لأن مقتضيات الأمن القانوني وحسن سير القضاء هي التي تُبرّرها.

ج. الحق في الطعن

إن الحق في الولوج الى العدالة لا يمكن ان يقتصر على الحق في الوصول إلى القضاء لأول مرة بل يجب أن يكون حقًا مستمرًا وذلك من خلال الحقّ في الطعن بالاستئناف في الحكم الابتدائي. وفي هذا الإطار ضمن دستور 2014 في فصله 108حق التقاضي على درجتين ومنحه بذلك قيمة دستورية.
ولا يطرح الحق في التقاضي مبدئيًا إشكالًا في القضاء العدلي باعتباره مكرّسًا بصورة مطلقة في حين أن ممارسة هذا الحق ليست ممكنة بالنسبة لبعض الأحكام الابتدائية والنهائية، إذ وعلى سبيل المثال نتبين أن الفصل 41 من قانون المحكمة الإدارية لسنة 1972 والذي نصّ على أن القرارات الصادرة في مادة توقيف تنفيذ القرارات الإدارية أو تأجيل تنفيذها لا تقبل أي وجه من أوجه الطعن بما في ذلك الاستئناف. كما يمكن أن نشير أيضًا إلى الفصل 85 من قانون المحكمة الإدارية والذي اقتضى أن الأذون الاستعجالية الصادرة عن رؤساء الدوائر الاستئنافية غير قابلة للاستئناف. وقد سبق للمحكمة الإدارية في قرار تعقيبي عدد731225 بتاريخ 15 ماي/مايو 2017 ان اعتبرت أن الفصل 85 من قانون المحكمة الإدارية غير دستوري لخرقه مبدأ التقاضي على درجتين كما ورد صلب الفصل 108 من الدستور: “وحيث أن مبدأ التقاضي على درجتين الذي اقتضاه الدستور التونسي يُعدّ أهمّ الحقوق الأساسية التي كفلها الدستور للمتقاضي، كما يندرج في إطار المعايير الدولية للمحاكمة العادلة والتي لابد للقاضي أن يسعى لتحقيقها، في حدود الإمكانيات المتاحة له، والحال أن المشرّع سكت عن هذا الحق مدّة تتجاوز الأجل المعقول من تاريخ دخول الدستور حيّز النفاذ”.

وخلافًا لحق التقاضي على درجتين فإن الدستور لم يتعرض الى الطعن بالتعقيب فهو لا يُعد عنصرًا من عناصر الولوج إلى العدالة.
بالنسبة لطرق الطعن الأخرى فيضمن القانون للطرف الذي لم يحضر في القضية إمكانية مناقشة الحكم الصادر ضده غيابيا سواء كان ذلك أمام القضاء العدلي أو القضاء الإداري. كما يفترض الحق في اللجوء إلى القاضي أن يتمكن الغير الذي لم تقع دعوته ليكون طرفًا في القضية ولم يكن ممثلًا فيها ولحقته منها اضرار ان يعترض على الحكم الصادر وهو ما نص عليه الفصل 79 فقرة 2 من قانون 1 جوان/يونيو 1972

II- الحق في الولوج الفعال إلى القضاء

لا يقتصر الحق في الولوج إلى القضاء على ضمان حق كل شخص في رفع دعواه أمام قاض مختص ووفق إجراءات مبسّطة بل يفترض أيضًا أن يكون النفاذ إلى العدالة فعّالًا فلا يكون مجرّد نفاذ شكليّ. ويرتبط الحق في الولوج الفعّال إلى القضاء ببعض العناصر التي يُعتبر تكريسها ضروريًا لممارسة هذا الحق بصورة حقيقية.
تمّ التنصيص على هذه العناصر صلب الدستور التونسي المؤرّخ في 27 جانفي/يناير 2014 وجملة من النصوص القانونية الأخرى، وتتمثل هذه العناصر في الحق في الدفاع من خلال إنابة محام والحق في الإعانة العدلية أو القضائية في صورة كان المتقاضي عديم الدخل وفي التسخير، وفي الحق في البتّ في القضية في أجل معقول وأخيرًا الحق في تنفيذ الحكم القضائي، إذ “لا ينفع تكلّم بحكم لا نفاذ له”.

أ‌. الولوج الى قاض مستقل:

ضمن الدستور استقلالية القضاة من خلال الفصول 102 و103 و104 و107 و109مؤكدًا على أن القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل وعلوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات، كما أن القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون. إلى جانب ذلك أقر الدستور جملة من الضمانات لفائدة القضاة كالحصانة الجزائية وعدم نقلة القاضي دون رضاه ولا عزله ولا إيقافه عن العمل أو إعفاءه أو تسليط عقوبة تأديبية عليه إلا في الحالات وطبق الضمانات التي يضبطها القانون وبموجب قرار معلل من المجلس الأعلى للقضاء.

وقد كرّس دستور 2014 عبر إرساء المجلس الأعلى للقضاء (الفصل 112) من خلال آلية انتخاب أعضائه استقلالية نظرية للسلطة القضائية بما أن المجلس المشار إليه يتعهد بالمسار المهني والتأديبي للقضاة، فيكون بالتالي المشرع قد ألغى تدخل السلطة التنفيذية في مسار السلطة القضائية ورفع يدها عن إمكانية نقلة القضاة أو تأديبهم وفقا لمدى انسجامهم مع تنفيذ التعليمات الحكومية أو الرئاسية.

ورغم إرساء هذا المجلس على أرض الواقع فإنه لايزال يشكو من عوائق كثيرة لعل أهمها ضعف الميزانية المسندة إليه، ولكن ما يهمنا على هذا المستوى هو غياب النص القانوني المنظم لسلطة الإحالة على المجلس وبالتالي استمرار التفقدية العامة بوزارة العدل في الاستحواذ على سلطة الإحالة امام المجلس للقضاة الذين تعلقت بهم تتبعات تأديبية وهذه معضلة كبيرة تحد من فاعلية المجلس في القيام بأهم الأدوار الموكلة إليه ذلك أن التشكي المقصود به تتبع قاض من أجل ارتكابه لخطأ مهني فادح أو حتى لخطأ جزائي كتلقيه لرشوة أو تعسفه في تطويع القانون للإضرار بحقوق متقاضي أو تعمده التمطيط وعدم البت في النزاع … يمر حتمًا عبر تقديم شكاية إلى التفقدية العامة بوزارة العدل والتي يشرف عليها وزير العدل وهي التي من المفترض ان تتولى القيام بجملة من الأبحاث والاستقراءات التي تنتهي إما بالحفظ أو بالإحالة على مجلس التأديب وهنا مربط الفرس بما أن السلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل هي بمفردها ودون رقابة عليها من تقرر إذا كانت الأفعال المنسوبة لقاض ما كافية لإحالته على المجلس الأعلى للقضاء المنتصب كمجلس تأديب وهذا التمشي يترتب عليه بصفة آلية تحكم السلطة التنفيذية وسيطرتها على مآلات التتبعات التأديبية للقضاة فيكون المناوئون منهم عرضة للمسائلة والتأديب فيما يتم حماية من كان متعاونًا.

وعليه فإن طريق الحق في الولوج إلى العدالة للمتقاضي الذي تعرض إلى ظلم أو حيف تسبب له فيه أحد القضاة نجده مسدودًا بشكل او بآخر أو لنقل رهن إرادة وزير العدل في ترتيب إحالة على مجلس التأديب (المجلس الأعلى للقضاء) وطالما لم يتم تخصيص جهة مستقلة بسلطة التتبع والإحالة ولم يتم سن قانون في الغرض فإن دور المجلس الأعلى للقضاء في إنصاف المتقاضين من تجاوزات بعض القضاة يبقى مسألة غير محسومة بالمرة.

ب‌. الحق في المساعدة القانونية (إنابة المحامي، التسخير، والإعانة العدلية):

ينصّ الفصل 108 فقرة ثانية من الدستور على ما يلي: “يُيسّر القانون اللجوء إلى القضاء ويكفل لغير القادرين ماليًا الإعانة العدلية”. وينطبق هذا الفصل على المتقاضين أمام القضاء العدلي وأمام القضاء الإداري بالرغم من أن العبارة المستعملة من طرف المؤسس هي “الإعانة العدلية” والتي يُقصد بها الإعانة التي يُوفرها القضاء سواء كان عدليًا أو إداريًا، وبناء على ما سبق ذكره نتبين العلاقة الوثيقة بين اللجوء إلى العدالة والإعانة القضائية لغير القادرين ماليًا.

ويُبرّر الواجب المحمول على الدولة بتوفير الإعانة العدلية لغير القادرين ماليًا بمبدأ المساواة بين المتقاضين والذي تمّ التنصيص عليه صلب الفصل 108 من الدستور فقرة أولى “المتقاضون مُتساوون أمام القضاء”، وإن كان المبدأ هو أن القضاء مجاني في القانون التونسي إلا أن هذا المبدأ لا ينطبق على المحامين الذين يُساهمون في توفير دفاع جيد للمتقاضين وهو ما يخدم جودة القضاء وحسن سيره. وفي هذا الإطار نذكّر بجملة من المبادئ الأساسية بشأن دور المحامي في الولوج إلى العدالة، هذه المبادئ تمّ اعتمادها بمناسبة مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين‎ ‎المعقود في هافانا من 27 ‏أوت/أغسطس إلى 7 سبتمبر 1990 وتعرض المؤتمر خصوصًا إلى الحق في الاستعانة بمحام وذلك بان نص على جملة من المبادئ أهمها ، أن لكل شخص الحق في طلب المساعدة من محام يختاره بنفسه لحماية حقوقه وإثباتها، وللدفاع عنه في جميع مراحل ‏الإجراءات الجنائية‎.

‏وبمناسبة عقد مؤتمر حول المساعدة القانونية في النظام الجنائي تحت عنوان “دور المحامين وغير المحامين والجهات ‏الفاعلة الأخرى في المساعدة القانونية في أفريقيا ليلونغوي، ملاوي 22-24 نوفمبر 2004″‏ نصّ”اعلان ليلونغوي” على النقاط الأساسية لضمان محاكمة عادلة ولتيسير اللجوء الى القضاء وهي:

وتقع على عاتق أي حكومة مسؤولية الاعتراف بحقوق الإنسان الأساسية ودعمها، بما في ذلك توفير المساعدة القانونية ‏وإمكانية الحصول عليها للأشخاص المشاركين في نظام العدالة الجنائية. ويجب أن تشجع هذه المسؤولية الحكومات ‏على اتخاذ الإجراءات وتخصيص الأموال كافية لضمان حصول الفقراء والأكثر ضعفًا، وخاصة النساء والأطفال، على ‏مساعدة قانونية شفافة‎، ‎وفعالة وبالتالي ضمان وصولهم إلى العدالة. يجب تعريف المساعدة القانونية على أوسع نطاق ممكن، وتشمل المشورة ‏القانونية والمساعدة التمثيل والتعليم والآليات البديلة لتسوية المنازعات .‏

والجدير بالملاحظة على مستوى تدخل المحامين في تأمين المساعدة القانونية المجانية والفعالة وتسهيل المعرفة القانونية ان الأمر يطرح إشكالًا حقيقيًا على مستوى التطبيق ذلك أن إقدام المحامين من خلال مبادرات شخصية أو عن طريق الجمعيات النشيطة في هذا المجال يقابل بصد كبير من قبل الهياكل المشرفة على المحاماة والتي تعتبر مثلها مثل اغلبية المحامين القاعديين أن تطوع البعض لإسداء خدمات قانونية مجانية يمثل تعديًا صارخًا على مبدأ المساواة بين المنتسبين لهذا القطاع بل ويعتبر مبررًا للإحالة على مجلس التأديب إذا لم يتم تزكيته مسبقًا وفي حدود ضيقة (قضايا الرأي على سبيل الحصر)، ويمكن القول بناء على ذلك ان المحاماة التونسية لم تستبطن بعد صفتها الدستورية بكونها شريك في إقامة العدل بمعناه الواسع ومعنية بالمساهمة الجدية في تكريس الحق في الولوج إلى العدالة للجميع وكذا تطوير معرفة العامة بأبجديات الحقوق المخولة لها في النزاع الجزائي بما يمكنها من حسن التعامل مع مجريات التتبع والاتهام.

وقد سبق للفرع الجهوي للمحامين بتونس على سبيل المثال أن أصدر بلاغًا يعمل بموجبه عموم المحامين بالتحجير عليهم الحضور بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة دون إذن خاص منه متوعدًا المخالفين بإحالتهم على عدم المباشرة وهذا الامر جعل من المحامين يهجرون وسائل الإعلام ويحجمون عن تقديم الاستشارات القانونية المجانية للعموم.

كما يطرح هذا الأمر تساؤلًا عامًا آخر يتمثل في كيفية مراقبة تنفيذ التوصيات والمقررات الدولية في علاقة بالحق في الولوج إلى العدالة وبتكريس دور المحامين وهياكلهم في خصوصه، كما يجدر التذكير بمبادئ الأمم المتحدة وتوجيهاتها بشأن سبل الحصول على المساعدة القانونية في نظم ‏العدالة الجنائية وذلك في إطار قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المؤرخ في 28 مارس ‏‏2013، إذ ‏عرفت الجمعية العامة في سياق قرارها المساعدة القانونية بكونها عنصرًا أساسيًا في أي نظام ‏للعدالة الجنائية يتسم بالإنصاف والإنسانية والكفاءة ويقوم على سيادة القانون، وتشكل المساعدة القانونية ‏أساسًا للتمتع بحقوق أخرى من بينها الحق في محاكمة عادلة وقد اقرت الجمعية العامة جملة المبادئ ‏التالية: ‏

وفي القانون التونسي تكرس جملة من القوانين هذا الحق وهي:

ج- الحق في محاكمة عادلة

أقر دستور 2014 صراحة الحق في محاكمة عادلة صلب الفصل 108 كما كرّسها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966.‏ وقد خصص العهد المادّة 14 لتفصيل مبادئ وشروط الولوج إلى العدالة والتزامات أصحاب القرار على مستوى الدول ‏الأعضاء بما في ذلك الحق في المحاكمة العادلة.
وقد تضمن التعليق العام عدد 32 الوارد في تفصيل مختلف المبادئ الواجب تفعيلها من قبل الدول الأعضاء وتحديدًا ‏لجملة من المفاهيم الاساسية الواردة بالمادة 14 من العهد ما يلي:

الحق في المساواة أمام المحاكم والهيئات القضائية وفي محاكمة عادلة باعتبار أن الحق في المساواة أمام المحاكم والهيئات القضائية وفي محاكمة عادلة هو أحد العناصر الأساسية لحماية حقوق ‏الإنسان وهو وسيلة إجرائية للمحافظة على سيادة القانون. وتهدف المادة 14 من العهد إلى كفالة إقامة العدل كما ‏ينبغي وهي تكفل في سبيل ذلك مجموعة من الحقوق المحددة، وتتسم المادة 14 بطابع معقد على نحو خاص، فهي تشتمل على ضمانات شتى ذات مجالات تطبيق مختلفة. وهي كالتالي:

كما يحظر هذا الضمان ممارسة أي عمليات تمييز في الوصول إلى المحاكم والهيئات القضائية لا تستند إلى القانون ولا ‏يمكن تبريرها استنادًا إلى أسس موضوعية ومعقولة، ويُعد هذا الضمان قد انتُهِك إذا مُنع أشخاص بعينهم من تقديم ‏دعاوى ضد أي أشخاص آخرين لأسباب مثل العرق أو اللون أو نوع الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غيره أو ‏الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الملكية أو المولد أو أي وضع آخر.
والحق في المساواة أمام المحاكم والهيئات القضائية يكفل أيضًا تكافؤ الفرص القانونية. ويعني ذلك حصول جميع ‏الأطراف على الحقوق الإجرائية نفسها ما لم توجد تفرقة تستند إلى القانون ولـها مبررات موضوعية ومعقولة، ولا ‏تنطوي على ظلم فعلي أو إجحاف بالمدعى عليه

إن الحق في محاكمة عادلة وعلنية أمام هيئة قضائية مختصة ومستقلة ونزيهة منشأة بحكم القانون هو حق مكفول، ‏وسرعة المحاكمة هي أحد الجوانب المهمة التي تبين عدالتها فالافتقار إلى الموارد وسوء التمويل المزمن، فينبغي قدر الإمكان توفير موارد إضافية من الميزانية من أجل إقامة العدل. ‏ويجب أن تتم جميع المحاكمات المتعلقة بمسائل جنائية أو بدعوى مدنية من حيث المبدأ بطريقة شفهية وعلنية. ‏فعقد جلسات المحاكمة بصورة علنية يكفل نزاهة الإجراءات ويوفر بالتالي ضمانة مهمة لصالح الفرد والمجتمع على ‏وجه العموم. ‏
الملفت للانتباه على مستوى هذا المبدأ هو الربط الواضح بين الأجل المعقول للفصل من قبل القضاء ومدى توفير الموارد والإمكانيات التي يقتضيها تفعيل ذلك المبدأ فتعهد القضاء بأعداد خرافية من الملفات يجعل من تحقيق البت في أجل معقول مستحيلًا ولا مفر بالتالي من تحرك باقي مؤسسات الدولة وتحديدًا الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي لتوفير الموارد البشرية والمادية اللازمة لتسهيل عمل المرفق القضائي والضغط على آجال إيصال الحقوق إلى أصحابها . 

ولا تزال مسألة تواصل المحامي مع موكله في ظروف تحفظ شروط السرية مسالة مصدر إشكاليات عديدة ومتكررة سواء في مراكز الإيقاف او في مقرات البحث الأولي وكثيرًا ما تحدث مصادمات بين المحامين وأعوان الضابطة العدلية وأعوان السجون الذين يتذرعون بضعف الإمكانيات بينما يتمسك المحامون بغياب تام لأبسط مقومات السرية بل وفي بعض الحالات فقد تم تركيز آلات تنصت في المكاتب الخاصة بزيارة المساجين.

ويمكننا في ذات السياق الإشارة أيضًا إلى القانون عدد62 لسنة 2017 المؤرخ في 24 أكتوبر 2017 أو ما يسمى بقانون المصالحة الإدارية والذي أدي إلى إعفاء الموظفين العموميين وشبههم من المؤاخذة الجزائية على معني أحكام الفصلين 82 و 96 من المجلة الجزائية وقد أفرز تطبيق هذا القانون الذي شهد صدًا مجتمعيًا حادًا وضعيات سريالية بما انه أعفى الفاعلين الأصليين من المؤاخذة الجزائية فيما تواصل تتبع شركائهم من غير الموظفين وتسليط عقوبات شديدة عليهم في إنكار تام للمبادئ الدستورية المتعلقة بالمحاكمة العادلة وبالخصوص بمبدأ المساواة أمام العدالة.

د‌. البتّ في القضية في أجل معقول

نص الفصل 108 من الدستور في فقرته الأولى على: “لكلّ شخص الحق في محاكمة عادلة في أجل معقول”، وترتبط هذه الفكرة بإشكال طول نشر القضايا في المحاكم بسبب عددها المتزايد وقلة الإمكانيات المادية والبشرية الممنوحة للمحاكم، وهو ما يضع مبدأ الأجل المعقول على كاهل الدولة التزامات بالتقليص من المدّة الزمنية التي تستغرقها البتّ في القضايا. لكن تقدير الاجل المعقول ليس مبدأ مطلقا باعتبار أن هذا الأجل يرتبط بالأساس بدرجة تعقيد القضية وطريقة التحقيق فيها وتسيير القاضي لها وتعامل الأطراف مع سير الدعوى.

وتجدر الملاحظة أن مبدأ الأجل المعقول نجده مكرسًا بصورة واضحة في إطار القضاء الاستعجالي الذي تم تكريسه في القضاء العدلي والقضاء الاداري وهو الذي يهدف في صورة التأكّد أن يأذن باتخاذ الأذون والتدابير الاستعجالية بصورة تحفظية ودون مساس بالأصل، لكن وباستثناء الإجراءات الاستعجالية يبقى القضاء العدلي وخاصة القضاء الإداري بطيئًا فمعدّل صدور الاحكام الابتدائية هو خمس سنوات تقريبًا وهي نفس المدة بالنسبة للاستئناف، وهو أجل غير معقول.

رغم التطور النسبي الذي عرفه التنظيم الهيكلي للمحكمة الادارية والمتمثل في إحداث الدوائر الابتدائية الجهوية في اتجاه الحد من طول نشر القضايا أمام المحكمة الإدارية في انتظار إحداث المحاكم الادارية الابتدائية، إلاّ أنّ تطبيق مبدأ الأجل المعقول أمام المحكمة الإدارية ما يزال محدودًا.

هـ. الحق في تنفيذ الحكم

ليكون الولوج إلى العدالة فعّالًا فإن الحكم القضائي الذي يصدر يجب أن يُنفّذ، ففي غياب الحق في تنفيذ الأحكام القضائية يكون الحق في الولوج إلى العدالة شكليًا، لذلك جاء الفصل 11 من الدستور ليُقرّ أنّ: “الأحكام تصدر باسم الشعب وتنفّذ باسم رئيس الجمهورية ويُحجّر الامتناع عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها دون موجب قانوني”، وإن كان تنفيذ الأحكام في النزاع المدني أو الجزائي لا يطرح إشكالًا، فإن المسألة تتميز ببعض الخصوصية في مادة النزاعات الإدارية. فالقرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية ضد الخواص لا تخضع لإجراءات التنفيذ العادية التي جاءت بها مجلة الإجراءات المدنية والتجارية. فلا يمكن اللجوء الى القوة العامة لتنفيذ حكم ضد الإدارة، ويبقى الحق لمن تضرر من عدم تنفيذ حكم قضائي إداري أن يرفع دعوى في التعويض لإلزام الإدارة بجبر الضرر الناتج عن عدم تنفيذ الإدارة لحكم المحكمة الإدارية طبقا لمقتضيات الفصل 10 من قانون 1 جوان/يونيو 1972.

الجزء الثالث: الولوج إلى العدالة في المجال الاقتصادي والجبائي

لا يقتصر الحق في الولوج الى العدالة على اللجوء إلى القضاء لممارسة الحق في التقاضي، بل يمكن أن يشمل الحق في الوصول إلى العدالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وذلك في إطار رؤية مُوسّعة للولوج إلى العدالة.
وفي إطار تركيز هذه الدراسة على حق الشباب من أصحاب المبادرات الاقتصادية والفئات الهشة في الولوج لا فقط إلى القضاء بل وكذلك حقّهم في النفاذ الى العدالة الاقتصادية والجبائية فإنه سيتم الاقتصار على بعض الأمثلة فقط لأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية هي أوسع بكثير (الحق في التعليم، الحق في العمل، الحق في الصحة، الحق في مستوى معيشي لائق، حقوق الطفل، مقاومة العنف ضد المرأة، حقوق الأقليات…)
كما سيتمّ التركيز على العناصر التي تسهّل الوصول الى العدالة الاقتصادية والجبائية من خلال التعرض الى التشريعات المتعلقة بالاستثمار والجباية والشؤون العقارية، دون التغاضي عن الاشكاليات والعوائق التي تحدّ في كثير من الأحيان من الحق في النفاذ إلى العدالة الاقتصادية.

1. مسألة الولوج للعدالة في التشريع الاقتصادي التونسي

لا يعتبر الإطار القانوني للاستثمار جديدًا في تونس بل يعود إلى السنوات الخمسين من القرن الماضي . وقد تعاقبت عديد النصوص القانونية والتي كانت في كل مرة تعبر عن رؤية اقتصادية معينة. ورغم الوعي بضرورة تطور الإطار القانوني للاستثمار إلا أنه أدى إلى تكون بيروقراطية خانقة للمبادرات الاقتصادية وجعلت من الاستثمار في تكوين المؤسسات مغامرة محفوفة بالمخاطر التي تهدد أموال وحقوق المستثمر الذي لا يجد من الضمانات ما يحمي حقوقه وهو ما يطرح التساؤل حول مسألة النفاذ إلى العدالة في النظام الاقتصادي التونسي.

تطور الإطار القانوني للاستثمار

قبل صدور الإطار الجديد للاستثمار سنة 2017 ومنذ الاستقلال مرت التشريعات التونسية المتعلقة بالاستثمار بثلاثة مراحل.

أدى هذا التضخم في الامتيازات والنصوص إلى الفشل في تحقيق الأهداف المرسومة من دفع للتنمية الجهوية والتشغيل لما أحاط بعملية الاستثمار من إجراءات بيروقراطية ثقيلة جعلت من الانتفاع بالحوافز رحلة شاقة ومكلفة، وقد ازدادت الوضعية تعقدًا بتعدد الهياكل المشرفة على الاستثمار والتي فاق عددها العشرين هيكلًا مما أدى إلى تشتت عملية الاستثمار بين العديد من الإدارات بالإضافة إلى انعدام التنسيق بين الهياكل المحدثة والادارات المعنية.
كما ساهمت مركزية الهياكل المعنية والمصالح الإدارية والمؤسسات المتعهدة بالتصرف في الحوافز والامتيازات في انعدام المساواة أمام فرص الاستثمار والنفاذ إلى الحوافز مما أثر على قدرة المستثمرين على متابعة مطالبهم واضطرارهم إلى التنقل مرارًا وما يترتب عنه من كلفة.

وصدرت في إطار الحث على الاستثمار والولوج إلى العدالة الاقتصادية العديد من النصوص القانونية الداعمة للاستثمار والمتمثلة في القانون عدد 69 لسنة 2007 المؤرخ في 27 ديسمبر 2007 المتعلق بحفز المبادرة الاقتصادية كما تم تنقيحه بالقانون عدد 71 لسنة 2009 المؤرخ في 21 ديسمبر 2009، وكذلك القانون عدد 20 لسنة 2018 بتاريخ 17 أفريل/أبريل 2018 يتعلق بالمؤسسات الناشئة الذي يهدف إلى: “وضع إطار مُحفز لبعث وتطوير مؤسسات ناشئة تقوم خاصة على الابتكار والتجديد واعتماد التكنولوجيات الحديثة وتحقق قيمة مضافة عالية وفدرة تنافسية على المستويين الوطني والدولي”.

كما صدرت جملة من الأوامر الداعمة لهذه القوانين ومن بينها الأمر عدد 982 لسنة 1993 المؤرخ في 3 ماي/مايو 1993 المتعلق بضبط الإطار العام للعلاقة بين الإدارة والمتعاملين معها وعلى جميع النصوص التي نقحته أو تممته وخاصة الأمر عدد 1882 لسنة 2010 المؤرخ في 26 جويلية/يوليو 2010، والأمر الحكومي عدد 1067 لسنة 2018 مؤرخ في 25 ديسمبر 2018 والامر عدد 1880 لسنة 1993 المؤرخ في 13 سبتمبر 1993 المتعلق بنظام الاتصال والإرشاد الإداري، والأمر عدد 1968 لسنة 1994 المؤرخ في 26 سبتمبر 1994 المتعلق بضبط قائمة الوثائق الرسمية المعتمدة للتعريف بالإمضاء، والأمر عدد 1260 لسنة 2007 المؤرخ في 21 ماي/مايو 2007 المتعلق بضبط الحالات التي يعتبر سكوت الإدارة عنها موافقة ضمنية، والأمر الحكومي عدد 417 لسنة 2018 مؤرخ في 11 ماي/مايو 2018 يتعلق بإصدار القائمة الحصرية للأنشطة الاقتصادية الخاضعة لترخيص وقائمة التراخيص الإدارية لإنجاز مشروع وضبط الأحكام ذات الصلة وتبسيطها، والذي يهدف إلى تبسيط الإجراءات وحذف العديد من التراخيص لتشجيع أصحاب المبادرات على الاستثمار.
إلا أن هذا الأمر أبقى على قائمة طويلة من التراخيص التي يتعيّن الحصول عليها لممارسة العديد من الأنشطة الاقتصادية مما من شأنه أن يُثني الشباب عن المبادرة ببعث مشاريع الاقتصادية. إلا أن الولوج الى العدالة الاقتصادية لم يعرف تطورا بالنظر إلى هيمنة البيروقراطية الإدارية وضعف الرقمنة على مستوى الخدمات الإدارية الى جانب امتداد ظاهرة الفساد المالي والإداري.

غياب الضمانات القانونية

رغم كثافة النصوص إلا أن توفر قواعد ملزمة تحمي حق المستثمر في النفاذ إلى حقوقه واستحقاقاته التي يمكن أن تنشأ له بمناسبة إنجاز مشروعه الاستثماري ظلت غائبة فانعدمت الأحكام التي تحدد آجال معالجة مطالب المستثمر والتي تفرض الرد عليها في آجال معلومة ووفق صيغ مضبوطة بواسطة قواعد قانونية ملزمة.

ومن الآثار المعلومة لغياب ضمانات قانونية فعالة معاناة العديد من المستثمرين وخاصة الشبان منهم من صعوبة الحصول على التمويلات والحوافز وهو ما أدى بدوره إلى إغراق المستثمرين الشبان في صعوبات إدارية ومالية منذ انطلاق مشاريعهم حيث انتهى أمر أغلبهم إلى التخلي عنها، وتتضح آثار ذلك من خلال ما تم تسجيله من ارتفاع لحالات التخلي عن انجاز المشاريع المصرح بها والتي بلغت نسبًا مرتفعة خاصة في الفترة الممتدة من سنة 2005 إلى سنة 2015 (7548 مشروع صناعي لم يتم انجازها وفق وكالة النهوض بالصناعة) .

2- الولوج إلى العدالة في النظام الجبائي التونسي

اقرّ الدستور التونسي جملة من القواعد تضمن العدالة الجبائية، إذ جاء بالفصل 10 منه أن: “أداء الضريبة وتحمّل التكاليف العامة واجب وفق نظام عادل ومنصف.
تضع الدولة الآليات الكفيلة بضمان استخلاص الضريبة ومقاومة التهرب والغش الجبائيين.
تحرص الدولة على حسن التصرف في المال العمومي وتتخذ التدابير اللازمة لصرفه حسب أولويات الاقتصاد الوطني وتعمل على منع الفساد وكل ما من شأنه المساس بالسيادة الوطنية”.

ولحماية دافع الضرائب من تعسف السلطة التنفيذية وبالتحديد السلطة الترتيبية لضبط قاعدة الأداءات والمساهمات ونسبها وإجراءات استخلاصها، اسند الدستور هذه الصلاحية بصفة حصرية الى السلطة التشريعية وجعلها مادة تشريعية طبقا للفصل 65 من الدستور، كما أقر الفصل 66 من الدستور مبدأ شرعية الأداء والمتمثل في “يُرخّص القانون في موارد الدولة وتكاليفها حسب الشروط المنصوص عليها بالقانون الأساسي للميزانية”، أما بالنسبة للنصوص الصادرة في المادة الجبائية فنذكر مجلة الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات ومجلة الجباية المحلية ومجلة معاليم التسجيل والطابع الجبائي، ومجلّة الأداء على القيمة المضافة… 

إلا أن المنظومة الجبائية في تونس لم تعرف استقرارًا على مستوى التشريعات بل أتّسمت بالتغيير والتعديل المتواصل دون أن يكون لذلك أثر إيجابي على تخفيف الضغط الجبائي على المطالب بالأداء، كما يعتبر النظام الجبائي التونسي إرثًا متكاملًا لمنظومة الاستبداد التي كانت تحكم قبل سنة 2011 حيث كان أداة فعالة في معاقبة الخصوم السياسيين والمنافسين الاقتصاديين لرجال الأعمال المقربين وأصهار الرئيس السابق، وكانت فاعلية هذا النظام ترتكز على السلطة التقديرية والصلاحيات الواسعة الممنوحة لمصالح الأداءات فيما يتعلق بالمراقبة الجبائية واستخلاص الأداء من جهة ومحدودية الضمانات القانونية والقضائية الممنوحة للمطالبين بالضريبة من أشخاص ومؤسسات من جهة أخرى، وشكل هذا الاختلال بين سلطة الإدارة وضمانات المطالبين بالأداء إطارًا خصبًا للفساد والابتزاز في المجال الاقتصادي عمومًا والجبائي خصوصًا، وتدعم ذلك في ظل غياب المساءلة والحد من حق الأشخاص في النفاذ إلى العدالة في المجال الجبائي.

التشريع الجبائي

في ظل الزخم التشريعي الذي عرفه المجال الجبائي بعد سنة 2011 قد يتبادر إلى الأذهان أن تغيرًا كبيرًا حصل في اتجاه الاستجابة إلى المطالب التي نادت بها الثورة التونسية من تحقيق للعدالة الجبائية وإرساء منظومة أكثر شفافية، إلا أن الواقع يثبت تواصل سيطرة مصالح وزارة المالية، على المبادرات التشريعية في المادة الجبائية من خلال مشاريع قوانين المالية التي تحتكر إعدادها كل سنة بمناسبة عرض الميزانية السنوية على مجلس النواب، وهو ما يفسر التوجه الذي اتسم به القانون الجبائي بداية من سنة 2011 والذي أولى أهمية كبرى لتعبئة الموارد لفائدة ميزانية الدولة بتدعيم صلاحيات المراقبة الجبائية والتوسع في الأحكام المتعلقة باقتطاع الأداء عبر التوسع في تطبيق الخصم من المورد وإحداث أداءات ومعاليم ظرفية، وفي المقابل لم تتطور الضمانات القانونية الممنوحة للمطالبين بالأداء بل إنها تراجعت من خلال التقليص فيها واستحواذ مصالح مراقبة الأداءات على جزء منها مما دعم وضعية تضارب المصالح التي تعرفها المنظومة الجبائية. 

وفي ظل سيطرة مصالح وزارة المالية على إعداد مشاريع القوانين اتسمت القواعد القانونية في المادة الجبائية في صياغتها بالانحياز لصالح الإدارة حيث تتخذ صيغة القواعد القانونية الآمرة كلما تعلق الأمر بفرض التزامات على المطالبين بالأداء وتتخلى عنها عندما يتعلق الأمر بالضمانات الممنوحة لهم. وتدعم هذا الانحياز على إثر بروز توجه لدى القضاء يقضي باعتبار القواعد الآمرة من قبيل القواعد التي تهم النظام العام والتي ترتب حماية للمطالبين بالأداء تتمثل في إبطال القرارات والإجراءات التي تنشأ مخالفة لها، بالإضافة إلى ذلك تميزت النصوص الجبائية بالغموض والتعقيد مما جعلها مستعصية على الفهم وهو ما أدى إلى تضخم الخلافات الجبائية من جهة وإلى كثافة الفقه الإداري من جهة أخرى. ويتكون الفقه الإداري من المذكرات العامة التي تنشر على موقع وزارة المالية والمذكرات الداخلية التي تصدرها الإدارة العامة لمراقبة الأداءات متوجهة بها إلى مصالحها الخارجية بالإضافة إلى الردود والمواقف التي تصدرها الإدارة العامة للدراسات والتشريع الجبائي في محاولات لتفسير أحكام القانون الجبائي والتي بقيت غير منشورة رغم تأثيرها في تطبيقه بصورة تمس من الوضعيات القانونية والمالية للأشخاص دون علمهم ودون تمكنهم من النفاذ إليها.

كما تعرف النصوص القانونية في هذا المجال حالة من التشتت زيادة على تفرق أحكامها بين العديد من المجلات الجبائية بالإضافة إلى بقاء عديد الأحكام ضمن قوانين المالية وهو ما عزز من ضبابية التشريع الجبائي وصعوبة العلم والإلمام بأحكامه بما رفع من المخاطر الجبائية للأشخاص والمؤسسات.

إدارة الجباية والخدمات الجبائية

تجمع مصالح مراقبة الأداءات والاستخلاص بين إسداء الخدمات وإنفاذ القوانين من خلال معاينة المخالفات وتحرير المحاضر، وتمنح المهام الرقابية صلاحيات واسعة في معاينة المخالفات الجبائية وتحرير المحاضر المالية والجزائية، وقد مثل هذا الجمع بين إسداء الخدمات وممارسة سلطة المراقبة مصدرًا للعديد من التجاوزات من خلال استغلال حاجة المستثمرين إلى الحصول على خدمات حساسة خاصة في ظل انعدام الرقابة على مدى احترام هذه الإدارات للقوانين والنصوص المنظمة للإجراءات .

وفي ظل تفاقم الإشكاليات والتجاوزات نادت العديد من المنظمات والحقوقيين بضرورة الفصل بين المراقبة الجبائية وإسداء الخدمات كخطوة أساسية للحد من الفساد ودعم حق المتعاملين مع مصالح مراقبة الأداءات في معاملة شفافة تيسر لهم النفاذ إلى حقوقهم .

بعث المشاريع والتصريح بالوجود

يمر بعث المؤسسات بوجوب اكتتاب تصريح بالوجود طبقًا لأحكام الفصل 56 من مجلة الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات. ويُمكّن الباعث من خلال هذا التصريح مصالح مراقبة الأداءات من المعطيات المتعلقة بالباعث وبمشروعه ويتم على إثره تمكينه من بطاقة تعريف جبائية تتضمن معرفًا جبائيًا لمؤسسته، في المقابل لا ينص التشريع الجبائي على ضرورة تمكين الباعث من أية معلومة تتعلق بالالتزامات والواجبات المحمولة عليه، ويترتب عن احترام إجراء اكتتاب التصريح بالوجود إخضاع الباعث إلى جملة من الالتزامات تتعلق بدفع الأداء ونسبه والتصريح به ووجوب إعلام مصالح مراقبة الأداءات بعدة معطيات بصفة دورية أو عرضية ومسك عديد الوثائق وإعدادها مع وجوب احترام الخصوصيات الإجرائية والشكلية لكل إجراء. وتختلف الواجبات ونسب الأداء والالتزامات باختلاف النشاط الاقتصادي وباختلاف الشكل القانوني الذي تتخذه المؤسسة والتي يترتب عن عدم احترامها أثارًا قانونية تتفاوت درجتها بحسب الحالات وبحسب حجم المعاملات والتي تصل في عديد الحالات إلى عقوبات سالبة للحرية إضافة إلى الخطايا كما تصل في مراحل متقدمة إلى وضع مصالح الأداءات يدها على وسائل الإنتاج والحسابات البنكية للمؤسسة ولصاحبها.

انجر عن عدم تمكين باعثي المؤسسات من وثيقة تمكنهم من معرفة ما يترتب عن بعثهم لمشاريعهم من التزامات ارتكابهم عن غير قصد ودون علمهم للعديد من المخالفات والجرائم الجبائية وتعرضهم إلى دفع الخطايا وعديد التتبعات، وتندرج أهمية الحصول على هكذا وثيقة ضمن مسألة النفاذ إلى العدالة لتعلقها بمعلومات أساسية يترتب عن حجبها آثار قانونية ومادية تمس من حق المطالبين بالضريبة في لدفاع عن مواقفهم ومواجهة إجراءات مصالح مراقبة الأداءات التي تعمد إلى تغيير النظام الجبائي لعديد الأنشطة بمجرد تغيير تأويلها للقوانين خاصة وأن القانون لا يحمل عليها واجب إعلام الأشخاص الذين تتأثر وضعيتهم بهكذا إجراءات.

الحوافز والامتيازات الجبائية

شكلت الحوافز الجبائية والمالية أحد أهم الآليات للتشجيع على الاستثمار والتي مثلت أداة لاستقطاب الباعثين الجدد. واتخذت الحوافز الجبائية شكل الإعفاءات من دفع الأداء وتوقيفه بالإضافة إلى تكفل الدولة بمساهمات الضمان الاجتماعي وجزءً من الأجور كما اتخذت الحوافز المالية شكل منح استثمار تتكفل بمقتضاها الدولة بنسبة من كلفة الاستثمار ومنح استغلال تتجسم في مبالغ مالية تصرفها الدولة إلى المنتفعين بها بمجرد دخولهم في مرحلة الإنتاج، وتتسم إجراءات الحصول على هذه الامتيازات بتشعب وتقلب في الإجراءات والتي يسند التصرف فيها إلى لجان وهيئات تضم العديد من المتدخلين والتي لا تجتمع بالضرورة في هيكل إداري موحد. يعرف مسار الحصول على الحوافز بانعدام الشفافية من حيث عدم وضوح الشروط والوثائق التي يتطلبها الحصول عليها بالإضافة إلى عدم تقيد الإدارات واللجان المتعهدة بآجال النظر في المطالب التي تتعهد بها.

ولئن شكلت شروط الحصول على الحوافز موضوع النصوص القانونية المنظمة لها فإن تأويلها من طرف الإدارة استنادًا إلى سلطتها التقديرية أدى إلى ترتيب شروط إضافية لا يحصل للمستثمر العلم بها إلا من خلال الاتصال المباشر بالإدارات المعنية والتي لا توفر أدلة معلوماتية تمكن من تسهيل نفاذ المنتفع إلى الحوافز. وقد نتج عن هذا الوضع تكبد العديد من الشبان لتكاليف غير متوقعة أدت بهم في العديد من الأحيان إلى التخلي على الانتفاع بالحوافز وعن مشاريعهم.

المراقبة الجبائية

يمنح القانون الجبائي لمصالح الجباية سلطة مراقبة تطبيق القوانين الجبائية من خلال مراجعة الوضعيات الجبائية للمطالبين بالأداء وتنفيذ القرارات الناتجة عنها واستخلاص الأداء. وتدعم الدور الرقابي والتنفيذي لمصالح مراقبة الأداءات منذ سنة 2011 حيث تم رفع السر البنكي ثم تم تخفيف القيود التي صاحبت الاطلاع على الحسابات البنكية مع حذف الرقابة القضائية وذلك بالاستغناء عنها تدريجيًا بالإضافة الى تدعيم عدة صلاحيات ميدانية كحق الاطلاع على عين المكان ومعاينة المخالفات وإمكانية حجز الوثائق والتي يترتب عن تعطيلها وعدم الامتثال إليها العديد من العقوبات، وقد أخل هذا التطور بتوازن العلاقة بين المطالبين بالأداء ومصالح مراقبة الأداءات باعتبار أن هذه الصلاحيات لم تواكبها ضمانات تمكن من النفاذ إلى معاملة شفافة وعادلة تحمي المطالبين بالأداء كتقييد اللجوء إليها بشروط موضوعية وشكلية أو إقرار إجراءات تظلم تحول دون التعسف في استعمالها.

ومن أشكال تدعيم صلاحيات المراقبة الجبائية توجه التشريع الجبائي نحو التوسع في استعمال القرائن من خلال تمكين مصالح مراقبة الأداءات من الاعتماد عليها في إطار المراجعة الجبائية الأولية بعد أن كان اللجوء إليها محصورًا في المراجعة الجبائية المعمقة والتي تعتبر أكثر أمانًا لما توفره من إمكانيات إخضاع أعمال إدارة مراقبة الأداءات إلى مبدأ المواجهة وتمكين المطالبين بالأداء من الدفاع عن أنفسهم من خلال الاعتراض على نتائجها والتعليق على موقف مصالح مراقبة الأداءات مما جعل من هذا التوسع في الاستناد إلى القرائن تراجعًا عن الضمانات التي تمنحها المراجعة الجبائية المعمقة، بالإضافة إلى ذلك فإن لجوء إدارة الأداءات إلى القرائن اتسم بالانحياز وعدم المساواة من حيث استعمالها في تعديل وضعيات المطالبين بالأداء في اتجاه مطالبتهم بدفع أداءات ومعاليم إضافية وخطايا مالية ورفض استعمالها عندما تكون حججًا للمطالب بالأداء بما يحرمه من الاستفادة منها.

ومن أشكال تدعيم صلاحيات المراقبة الجبائية توجه التشريع الجبائي نحو التوسع في استعمال القرائن من خلال تمكين مصالح مراقبة الأداءات من الاعتماد عليها في إطار المراجعة الجبائية الأولية بعد أن كان اللجوء إليها محصورًا في المراجعة الجبائية المعمقة والتي تعتبر أكثر أمانًا لما توفره من إمكانيات إخضاع أعمال إدارة مراقبة الأداءات إلى مبدأ المواجهة وتمكين المطالبين بالأداء من الدفاع عن أنفسهم من خلال الاعتراض على نتائجها والتعليق على موقف مصالح مراقبة الأداءات مما جعل من هذا التوسع في الاستناد إلى القرائن تراجعًا عن الضمانات التي تمنحها المراجعة الجبائية المعمقة، بالإضافة إلى ذلك فإن لجوء إدارة الأداءات إلى القرائن اتسم بالانحياز وعدم المساواة من حيث استعمالها في تعديل وضعيات المطالبين بالأداء في اتجاه مطالبتهم بدفع أداءات ومعاليم إضافية وخطايا مالية ورفض استعمالها عندما تكون حججًا للمطالب بالأداء بما يحرمه من الاستفادة منها.

النفاذ إلى الحق في استرجاع الأداء

اتسمت قوانين المالية الصادرة بعد 2011 بالتوسع في اقتطاع الأداء من خلال الخصم من المورد استجابة لحاجيات الدولة المتزايدة إلى الموارد لتمويل ميزانياتها مما أدى إلى حرمان العديد من المؤسسات من جزء هام من السيولة التي توفرها لهم أنشطتهم. وكنتيجة حتمية لهذا التوجه برزت لدى العديد من المؤسسات فوائض في الأداءات جراء تضخم الاقتطاعات التي أصبحت تفوق الضرائب والأداءات التي يتوجب دفعها. ورغم تنظيم مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية لحق استرجاع فوائض الأداء إلا أن النفاذ إلى هذا الحق طبقًا لأحكامها بقي غير مضمون. وتعود صعوبة النفاذ إلى حق استرجاع فائض الأداء إلى عدة عوامل من بينها عدم إلزامية النصوص القانونية التي تنظم النفاذ إلى هذا الحق والذي أدى إلى عدم احترام مصالح مراقبة الأداءات للآجال المتعلقة بالبت في مطالب المؤسسات وعدم الرد عليها في العديد من الحالات.

وبالرغم من أن مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية أقرت بحق المؤسسات والأفراد في التوجه إلى القضاء من خلال رفع دعوى قضائية لاسترجاع فوائض الأداء أو الأداءات التي تم استخلاصها بدون وجه حق بمجرد انقضاء ستين يوم بداية من تاريخ إيداع طلب الاسترجاع دون التوصل برد مصالح مراقبة الأداءات إلا أن الواقع يشهد عزوفًا عن اللجوء إلى هذا الحق، ويعود هذا العزوف إلى عدة أسباب منها عدم تمكين المتقاضي من النفاذ إلى حقه في الاسترجاع إلا بعد صدور حكم نهائي وبات والذي يتطلب الحصول عليه مدة تفوق الأربع سنوات مع تكبد كلفة التقاضي طيلة هذه المدة.

نزاع الاستخلاص

يتكون الإطار القانوني المنظم لإجراءات الاستخلاص في المادة الجبائية من مجلة المحاسبة العمومية وبعض الأحكام التي تضمنتها مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية. وتشرف الادارة العامة للمحاسبة العمومية والاستخلاص على عملية استخلاص الأداء بما يتضمنه من الجوانب الإدارية والقضائية والتنفيذية. تعطي المجلة مصالح الاستخلاص صلاحيات واسعة تشمل قيامها بإجراءات الاستخلاص والتبليغ والإعلام بواسطة أعوانها دون الحاجة إلى اللجوء إلى عدول التنفيذ.

ويعرف مجال استخلاص الأداء حالة من انعدام التوازن بين الصلاحيات الواسعة لمصالح وزارة المالية من جهة والمتقاضين من جهة أخرى بما يعيق النفاذ إلى العدالة في هذا المجال ويجعل إمكانيات التوقي من تعسف الإدارة ونتائج أخطائها محدودة جدًا، ويتجلى ذلك من خلال محدودية إجراءات توقيف تنفيذ قرارات التوظيف الإجباري وبطاقات الإلزام التي تصدرها مصالح الأداءات ذلك أن قرارات توظيف الأداء تصبح قابلة للتنفيذ بعد مرور ستين يومًا بداية من تاريخ تبليغها وذلك بتمكين قابض المالية من الشروع في إجراءات الاستخلاص بانتهاء الأجل المحدد، وقد مكنت مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية المطالبين بالأداء من إمكانية إيقاف تنفيذ قرارات التوظيف الإجباري وذلك من خلال تأمين مبلغ مالي لدى مؤسسة مالية أو من خلال دفع نسبة معينة من أصل الأداء مباشرة لدى قابض المالية.

إلا أن هذه الضمانة تبقى محدودة لعدة أسباب منها عدم تغطيتها لجميع أصناف الأداء باعتبارها تستثني صراحة الخصم من المورد والخطايا المترتبة عنه . وحيث تعود أغلب المبالغ المتعلقة بالخصم من المورد إلى خلافات حول التكييف القانوني للمعاملات أو إلى أخطاء قانونية ومادية تقترفها الادارة في تعليل قراراتها مما يجعل من المطالبين بالأداء دون حماية قانونية طالما أن القانون لا يتيح لهم إمكانية إيقاف تنفيذها. ويعتبر استثناؤها من إيقاف التنفيذ رغم الإقرار بحق الاعتراض عليها في الأصل حالة من عدم التجانس بين الأحكام الجبائية التي تضمنتها مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية، بالإضافة إلى ذلك تم الحد من فاعلية إجراءات إيقاف تنفيذ قرارات التوظيف الإجباري من خلال تحديد مفعولها في الزمن وحصره في الطور الابتدائي من النزاع في أصل الأداء مع تمكين قابض المالية من استخلاص مبلغ الضمان البنكي بمضي سنة تحتسب بداية من تاريخ تبليغ قرار التوظيف الإجباري.

ويؤدي الحد من فاعلية إجراءات إيقاف التنفيذ إلى استخلاص مبالغ الضمان المالي قبل انتهاء المحاكم الابتدائية من البت في الدعاوى المرفوعة اعتراضًا على قرارات توظيف الأداءات التي تصدرها مصالح مراقبة الأداءات في حقهم، وينتج عن ذلك صعوبة استرجاع مبالغ الضمان بالنسبة للمؤسسات والأشخاص الذين تصدر الأحكام لفائدتهم باعتبارها تخضع للإجراءات المتعلقة باسترجاع الأداء والتي تتطلب استصدار أحكام نهائية وباتة يستغرق الحصول عليها سنوات عدة، ويتم استخلاص الأداء في عدة حالات استنادًا إلى بطاقات إلزام يصدرها قابض المالية لأحكام مجلة المحاسبة العمومية والتي تنظم إجراءات إصدارها والإعلام بها وتنفيذها والاعتراض عليها. ورغم ما ينص عليه الدستور التونسي الجديد في فصله عدد الفصل 104 من تعميم التقاضي على درجتين إلا أنه فيما يتعلق ببطاقات الإلزام لم تواكب مجلة المحاسبة العمومية الدستور الجديد ذلك أن الاعتراض عليها بقي مقتصرًا على محكمة الاستئناف.

وقد استثنت مجلة المحاسبة العمومية صراحة بطاقات الإلزام من إمكانية إيقاف تنفيذها من خلال ما نصت عليه في فصلها عدد 35 من أنه “لا يجوز للمحاكم إيقاف آجال تسديد الديون الراجعة للدولة أو لمؤسسة عمومية أو لمجموعة عمومية محلية أو التمديد فيها”، وفي ظل استثناء بطاقات الإلزام من إمكانية إيقاف تنفيذها تظل جدوى وفعالية إجراءات التقاضي المتعلقة ببطاقات الإلزام محل تساؤل.

3. الولوج إلى العدالة الاقتصادية من خلال القضاء العقاري

عرفت تونس التسجيل العقاري بنظامه الجديد بعد انتصاب الحماية الفرنسية بها، فأحدث المجلس المختلط العقاري بمقتضى الأمر المؤرخ في 19 رمضان 1302 الموافق لأول جويلية/يوليو 1885، ثم أحدثت المحكمة العقارية بمقتضى الأمر العلي المؤرخ في 19 فيفري/فبراير 1957. وظلت المحكمـة العقارية ومـن قبلها المجلس المختلط العقاري تطبق إلى جانب إجراءات التسجيل العقاري الاختياري إجراءات المسح العقاري الذي لم يصبح إجباريا إلا منذ صدور المرسوم عدد3 لسنة 1964 المؤرخ في 20 فيفري/فبراير 1964 المتعلق بالتسجيل الإجباري والمنقح والمتمم بالقانون عدد28 لسنة 1979 المؤرخ في 11 ماي/مايو 1979. وتلعب المحكمة العقارية دورًا رئيسيًا في مادتي التسجيل العقاري وتحيين الرسوم العقارية وتخليصها من الجمود وذلك بالاستعانة بديوان قيس الأراضي ورسم الخرائط الذي ينحصر دوره في إنجاز الأعمال وإعداد الأمثلة الهندسية لها وبإدارة الفنية المتعلقة بتحديد العقارات المطلوب تسـجيلها اختياريًا أو إجباريًا والملكية العقارية التي تختص بإقامة الرسوم العقارية المتولدة عن أحكام التسجيل وحفظها وترسيم الحقوق اللاحقة لحكم التسجيل وغير ذلك مما يقتضيه التعامل على العقارات المسجلة. كما تم انشار القضاء العقاري في الجهات

4. تسهيلات الخدمات الإدارية

 تطوير الخدمات الالكترونية والرقمية: الأمر الحكومي عدد 3 لسنة 2021 مؤرخ في 6 جانفي/يناير 2021 والمتعلق بالبيانات العمومية.
الفصل الأول: يهدف هذا الأمر الحكومي إلى تنظيم عملية نشر البيانات العمومية وفق مبدأ الفتح وذلك قصد:

5. الحق في النفاذ إلى المعلومة

إن العدالة الاقتصادية لا تتحقق إلا بتمكين كل من يرغب في الحصول على معلومة تهمّه أو حتى لمجرد العلم من النفاذ إلى المعلومة وخاصة المعلومة المتعلقة بالمجال الاقتصادين وهو ما حرصت المنظومة التشريعية التونسية على تحقيقه بعد 2011 سواء من خلال اصدار المرسوم عدد 2011-41 المؤرخ في 26 ماي/مايو 2011 يتعلق بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية للهياكل العمومية، وفي مرحلة موالية من خلال إصدار القانون الأساسي عدد 24 لسنة 2016 المؤرخ في 22 مارس 2016 والمتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة والذي ألغى المرسوم عدد 41 لسنة 2011.
جاء الفصل الأول من قانون 2016 مكرّسًا للحق في النفاذ إلى المعلومة من خلال بيانه للهدف من القانون. “يهدف هذا القانون إلى ضمان حق كل شخص طبيعي أو معنوي في النفاذ إلى المعلومة بغرض:

اذ جاء بالفصل 6 أنّه “يتعين على الهياكل الخاضعة لأحكام هذا القانون أن تنشر وتُحين وتضع على ذمة العموم بصفة دورية وفي شكل قابل للاستعمال المعلومات التالية:

في المقابل ولتوضيح آليات النفاذ إلى المعلومة وضح المشرع صلب الفصل 9 أنّه:

وفي صورة تمّ رفض مطلب النفاذ إلى المعلومة يمكن للمعني بالأمر أن يطعن في قرار الرفض أمام هيئة النفاذ إلى المعلومة طبقًا لما جاء في الفصل 38 من القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 والذي جاء فيه “تتولى الهيئة بالخصوص:

6. الهيئات الدستورية المستقلة

أسند دستور 2014 في بابه السادس جملة من الاختصاصات المرتبطة أساسًا بحقوق الانسان والحريات السياسية للهيئات مستقلة أدرجها المؤسس صلب الدستور، وعددها الخمس وهي:

 ويكمن الغرض الأساسي لبعث هذه الهيئات في كونها تمثل ضمانات لعدم تغول السلطة التنفيذية من ناحية وكذلك رصد الاخلالات والإشكاليات المطروحة على مستوى تحقيق منظومة الحقوق والحريات وضمان حق المواطنين في المشاركة المجتمعية، وقد أقر الفصل 125 من الدستور تلخيصًا لهذا الدور بأن أكد ان دور الهيئات الدستورية يتمثل في دعم الديمقراطية، فلا جدال إذن في دور الهيئات الدستورية في تركيز وتعزيز حق المواطن في الولوج إلى العدالة وذلك على أكثر من مستوى، يمكن أن نتبينها من خلال الأمثلة التالية:

دراسات الحالة

التوصيات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *